الخميس، 5 مارس 2009

كتاب حرب اسرائيل
الأولى والثانية والثالثة والرابعة
نشر على الرابط
http://elbadawy66.blogspot.com/




غلاف الكتاب

قصص من
حرب إسرائيل
الأولى والثانية والثالثة والرابعة


بقلم
محمود البدوى


اعداد وتعقيب
على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى


الناشر
مكتبة مصــر
3 شارع كامل صدقى ــ الفجالة
ت : 25908920

مقدمة

مقدمة :

انتصرت بريطانيا على الدولة العثمانية فى الحرب العالمية الأولى ، واحتلت فلسطين سنة 1917 وتعهدت على لسان وزير خارجيتها " جيمس بلفور " على إنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين ..
وفى 29 نوفمبر 1947 أوصت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين واقامة دولتين احداهما عربية والأخرى يهودية .. وأعلن اليهود قيام دولتهم فى 14 مايو سنة 1948 .
ومنذ هذا التاريخ بدأت الحروب بين العرب وإسرائيل .. فالحرب الأولى سنة 1948 والثانية سنة 1956 والثالثة سنة 1967 والرابعة سنة 1973
وقد وجدنا أنه من المناسب أن نقوم بنشر القصص التى كتبها محمود البدوى ( 8 ديسمبر 1908 ـ 12 فبراير 1986 ) .. فى كتاب واحد ، لأنها تعتبر سجلا حافلا لحركة المجتمع فى فترات تاريخية معينة ، لأن كان يحاكى فيها الواقع ، ويحرص على تحديد كل شىء ..
فهو لايقدم المعلومة فى صورة صماء ـ مجرد وصف دقيق لما يدور فى الشوارع أثناء انتقاله وعبوره من شارع إلى آخر أو أثناء سكناه ـ ولكنها تجعل القارىء يعايش هذه الأحداث ..

مقدمة لابد منها

مقدمة لا بد منها :

رأى فرعون فى منامه حلما أفزعه .. فجمع العرافين من أقطار الأرض وحدثهم بما رأى .. فحدثوه بأن غلاما سيولد فى مصر .. وعندما يشب عن الطوق سيقتلك ويستولى على ملكك ويشرد أهلك ويقضى على عقيدتك .. وسيكون السبب فى كل بلاء يصيبك ويصيب ملكك ..
فأمر فرعون على الفور بذبح كل وليد فى مصر .. وفى ذلك الوقت .. ولد نبى الله موسى عليه السلام .. فارتعشت أمه وتولاها الجزع ..
ولكن الله سبحانه أنزل على قلبها السكينة وأمرها بأن تضعه فى تابوت وأن تلقيه فى اليم .. ولا تخافى ولا تحزنى وإنا رادوه اليك وجاعلوه من المرسلين ..
ونفذت أمر ربها .. فأرضعته ووضعته فى التابوت وألقته فى اليم .. وجعلت أخته تقص أثره .. تتبعه بعينيها ..
وظلت تتبعه حتى وقف على سلالم قصر فرعون الغائص درجاتها الأولى فى الماء .. وبصر به الجوارى عن قرب .. فجرين إليه .. وحملنه .. وهن فرحات إلى زوجة فرعون التى فرحت به كثيرا ..
وجئن له بمرضعات .. فرفضهن جميعا واحدة .. واحدة ..
وظهر على وجوههن اليأس من حاله ..
وهنا قالت لهن أخته :
ـ هل أدلكن على مرضعة تكفله لكم .. وتغنيكن عن التعب ..
وجاءت بأمه .. فأرضعته .. وقرت عينها به .. فبعد فراق لم يطل عاد الرضيع بقدرة الله وتدبيره إلى أمه ..
وتربى الغلام فى قصر فرعون حتى شب عن الطوق وأصبح شابا مكتمل الرجولة .. تربى فى القصر على الأدب والشهامة والفروسية ..
وأصبح يخرج من القصر .. ويعيش الحياة اليومية فى المدينة .. ويختلط بالناس .. ويعاشرهم ..
وكان فى المدينة قوم مضطهدون لا يأخذون حقهم فى الحياة .. فكانوا يلجأون إليه ليتشفع لهم عند فرعون .. وأصبح لطول عشرته لهم يحبهم حتى أصبح منهم .. وأصبح من العشيرة المضطهدة التى تلاقى الويلات من الفئات الأخرى من الشعب ..
وذات يوم .. استغاثه الذى من عشيرته على الذى من عدوه فضربه موسى فخر صعقا ..
وهرب موسى خشية أن يقبض عليه .. وأصبح يعيش خائفا يترقب ..
ولكن الله أعمى بصيرة القوم عن الاهتداء إليه .. ونجا من الموت .. ونسى الحادث ..
***
وأصبح رجلا فى المدينة قويا مفتول الساعد فارسا من أبرع الفرسان واشتهر بفروسيته لأنه تربى فى قصر فرعون مع الخيل ..وذات يوم خرج بجواده .. إلى خارج المدينة فوجد على الماء قوما يسقون عنهم دوابهم ومن دون الماء .. رأى امرأتين تذودان ..
فسألهما لماذا هما بعيدتان عن الماء هكذا ..؟
فقالتا له :
ـ لا نسقى حتى يصدر الرعاء .. وأبونا شيخ كبير ..
فسقى لهما ثم تولى إلى الظل وهو يقول :
رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت علىَّ..
***
وقصت البنتان أمر الرجل على أبيهما وقالت له إحداهن :
ـ يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين ..
ولم يمر من الوقت إلا القليل .. حتى جاءته احداهما تمشى على استحياء وقالت :
ـ إن أبى يريد أن يجزيك أجر ما سقيت لنا ..
فذهب معها إلى والدها ..
وقال له الشيخ :
ـ إنى أريد أن أزوجك احدى ابنتى على أن تؤجرنى ثمانى حجج وأن زدت عشر فمن عندك ..
فرد عليه موسى :
ـ إنى أعمل معك السنين التى ترضاها ..
وتزوج إحدى ابنتيه وعاش مع الشيخ ..
***
واشتهر زمن فرعون بالحواة والعرافين والذين يتقصون أخبار النجوم .. ولكن أبرهم جميعا كان الحواة ..
وفى قصر فرعون .. تجمعوا يظهرون براعتهم فى ساحة كبيرة أعدت لذلك ..
وكان موسى واقفا معهم يشاهد لعبهم .. ولا يشترك معهم فى لعب .. ولكن الله أراد أن يظهر قدرته ومعجزه وسط هذه الجموع ..
فألقى الحواة عصيهم وحبالهم .. فإذا هى كما يخيل للنظارة حياة تسعى ..
وأمر الله موسى أن يلقى عصاه فألقاها فإذا هى تلقف ما ألقوا ..
وظهرت المعجزة الكبرى والقدرة العليا .. قدرة الله سبحانه ..
واغتاظ فرعون وتميز من الغيظ وقال للحواة :
ـ انه كبيركم الذى يعلمكم السحر .. والله لأعذبنكم عذاب شديدا .. ولأصلبنكم فى جذوع النخل ..
***
وكانت عشيرته قد زاد اضطهادها من فرعون وملته .. فتزعمهم موسى ليرد هذا العدوان ..
وقرروا بعد عذاب طويل واضطهاد الخوج ..
فخرج من مصر ووراءه القوم .. حتى بلغوا خليج السويس بالبحر الأحمر .. وكان يتصل فى زمن المد بالبحر الأبيض .. فى قناة واسعة ..
ووقف وقومه على رأس الماء حيارى وجيوش فرعون وراءهم ..
وأمره الله بأن يضرب بعصاه البحر فانفلق نصفين ونزل موسى وقومه فى اليابسه حتى عبروا جميعا .. ولما نزل جيش فرعون .. انطبقت عليهم الماء فأصبحوا من المغرقين ..
وسار موسى وقومه إلى سيناء .. وفى سيناء .. رأى نارا .. وكلم الله موسى ..
وأمره أن يدعو إلى دين الله جهارا ..
فطلب موسى من ربه أن يعينه بأخيه هارون ليحلل عقدة لسانه ..
وأخذ موسى ينشر دعوته ..
ثم اتجه إلى البلاد التى كانت تسمى فى وقتها بالشام .. وفى الشام حائط المبكى المشهور لليهود ..
***
ومرت الأعوام وجاء الانتداب البريطانى والانتداب الفرنسى .. ووعد بلفور .. ثم تقسيم فلسطين بين العرب واليهود .. وخديعة الإنجليز وطرد العرب من فلسطين والحروب الدامية فى سنة 1948 وسنة 1956 وسنة 1967 وسنة 1973 ..
حروب دامية طوال ثلاثين عاما زرعت الحقد والخوف فى النفوس .. وذهب فيها آلاف الشهداء وخربت من الموت ودمرت .. وتقطعت الأوصال ..
وفكر الرجل العظيم فى أن ينهى هذا كله مواجهة .. دون لف أو دوران وذهب إلى القدس .. يحمل حمامة السلام وراية السلام البيضاء .. واستجابت له النفوس واهتزت من الفرحة القلوب ..
فما جدوى القتل وما جدوى التدمير ..
وما الذى يستفيده الناس من الحروب الغالب والمغلوب فى خسارة .. تلك سنة الحياة الكبرى ..

رسالة من الميدان


رسالة من الميدان

قصة محمود البدوى


جلست فى القطار السريع العائد من فلسطين ، مرسلا البصر عبر النافذة إلى الصحراء والتلال والكثبان الرملية التى لايحدها النظر ..

وكنت قد خرجت لتوى من المستشفى العسكرى بعد إصابة بالغة فى جبهة القتال .. ومنحـت إجازة طويلة أسترد خلالها عافيتى ..

وجلست منفردا منـزويا فى ركن من العربة ، بعيدا عمن حولى من الركاب دائرا حول نفسى كالقوقعة ..

وكنت أحمل رسالة عزيزة وضعتها فى جيب سترتى ، رسالة من صديقى الضابط الشهيد محى الدين .. الذى كان يحارب معى فى نفس الجبهة .. وكان قد كتبها لوالدته قبل أن يخـوض المعركة .. يستودعها ابنه الصغير وزوجته التى لم تستمتع بعد بالحياة .. وكان يتوقع الموت .. فقد كنا نحارب عدوا جلب أحدث الأسلحـة وأشـدها فتكا بذخيرة فاسدة .. ومع ذلك كنا نقاتل قتال الأبطال .

وكانت صورة المعارك الدامية قد طافت بذهنى وأنا أنظر عبر السهول الفسيحة الممتدة إلى ما لا نهاية .. والقطار ينهب الأرض نهبا.. وكنا فى يوليو والجو خانقا .. والركاب المدنيون الجالسون معى فى نفس الديوان .. يلعنون مصلحة السكك الحديدية لأنها رفعت المراوح الكهربائية التى فى القطار .. ويسبون كل شىء .. وكنت أسخر من هذه الرفاهية .. فلم أكن أحس بشىء ذا بال .. فقد تعودنا على الخشونة بكل ضروبها .. فلم يكن يرهقنى أن لا أجد مروحة فى عربة .. وكنت أسخر من هؤلاء الركاب .. وأغتاظ من تفاهة تفكيرهم .. وزادنى غيظا أن بعضهم لم يكن يحس بشىء مما نحن فيه من هول .. لم يكن يدرى أن هناك حربا فى فلسطين دائرة على أشدها ..

وعندما خرجت من نطاق المحطة وهبطت إلى المدينة .. مدينة القاهرة فى الليل .. رأيت الأنوار والأضواء .. والملاهى والمواخير .. والمراقص الدائرة ، وازداد حنقى فقد كنا نقاتل فى جبهتين منفصلتين بكليتنا عن الوطن الذى ندافع عنه.

***

ونمت فى بيتى إلى الصباح .. وكنت أحمل فى حقيبتى ساعة محيى الدين الذهبية ومحفظته .. وحجابا صغيرا صنعته له أمه قبل سفره إلى الجبهة .. وقلما من الأبنوس ومفكرته الصغيرة .. وهى كل الأشياء العزيزة التى تخصه .. والتى أفرغتها من جيوبه قبل أن يحمله الجنود على نقالة إلى المستشفى الميدانى .. فأخرجت هذه الأشياء ووضعتها فى حقيبـة صغيرة واتجهت إلى بيت صاحبى فى ضاحية القبة .

وصـعدت سلالم المنزل الصغير الأنيق وقلبى يعصره الألم ..

وجلست فى غرفة الصالون وحيدا .. بعد أن فتحت لى الخادم الباب .. وسمعت وأنا جالس صوت الراديو يردد بعض الأغانى الشائعة .. ما هذا .. أيجهلون كل شىء ؟! ..

ودخلت علىّ السيدة والدة محيى الدين بردائها الأسمر السابغ ، وكانت تعرفنى .. فلما رأتنى ظهر على وجهها البشر
وقالت :
ـ انت يا بنى .. وازى محيى ..؟

ولم أقل شيئا .. واستمرت هى ترحب بى مسرورة .. وأدركت بعد دقيقة واحدة من مجلسى معها أنها تجهل أن ولدها مات .. وكانت متلهفة على سماع أخباره .. وأسقط فى يدى .. كيف أحدثها بخبره .. ولو حدثتها وهى فى غمرة نشوتها لقتلتها من هول الصدمة .. فكتمت الخبر .. وأخذت أروى لها مختلف الأحاديث عنه . .

وسألتنى :
ـ ومتى سيأتى ..؟
قلت :
ـ بعد شهرين ..

وذاب قلبى حسرات .. وتذكرت كل ما كنت أحمله فى جيوبى من هدايا لأسرتى .. وأخرجتها وقدمتها لوالدة محى الدين على أنها مرسلة من ابنها .. لها ولزوجته ..

وجرت بالهدايا إلى الزوجة فى الداخـل ، وهى تصيـح ، بصوت طروب :
ـ شوفى يا اعتـدال .. إيه اللى باعتولك جوزك ..

وسمعت صوتا رقيقا ناعما يقول من فرجة الباب :
ـ مرسى .. مرسى خالص ..

وأخذت أنظر إلى هؤلاء الناس المتلهفين على أخباره ، والمتوقعين قدومه فى كل لحظة ، الذين يتصورون كل شىء إلا أنه مات وراقد هناك تحت الثرى ..
ومرت فى خيالى صور .. وذكريات ..

وعندمـا ودعت الوالدة .. وحملت ابن محى الدين وقبلته وهبطت سلم البيت .. وخرجت إلى الشـارع .. كن واقفـات فى الشـرفة لوداعى ..

***

ولم تبرح صورة محى الدين وصورة أسرته ذهنى بعد ذلك أبدا .. كانت تشغل تفكيرى كله .. وقررت أن أفعل شيئا سريعا حاسما لأريح أعصابى .. قررت أن أعود إلى جبهة القتال لأنتقم له ..

وعدت إلى فلسطين .. واشتركت فى المعركة الكبرى .. وقتلت كثيرا من اليهود .. وشعرت بنشوة النصر ولذة الانتقام .. وفى حمى المعركة أصبت بشظية فغبت عن الوجود وحملت وأنا فى الغيبوبة إلى المستشفى ..

***

وعندما فتحت عينى وعـدت إلى رشـدى ، وجدت نفسى فى مستشفى الحلمية العسكرى .. وبجوارى تقف سيدة شابة فى لباس الممرضات .. وكان وجهها كالبدر ، ونظرت اليها طويلا وعرفتها .. كانت زوجة محيى الدين ..

***

اننى أعيش الآن فى منـزل محيى الدين .. مع والدته الكريمة ، وابنه الصغير ، وزوجته التى أصبحت زوجتى ، وعزيزة على منذ تلك اللحظة الخالدة فى تاريخ الإنسان ، وأشعر أنهم لم يفقدوا شيئا .. كما أشعر أننى أديت الرسالة التى حملتها معى من الميدان .
=================================
نشرت القصة بمجموعة " العذراء والليل " لمحمود البدوى المنشورة فى عام 1956
=================================

اللوحة

اللـوحــة

قصة محمود البدوى

كان حسام الدين رساما مشهورا ولوحاته الفنية حديث الناس فى المجتمع ..

وكان يسكن فى " فيلا " صغيرة من طابق واحد فى عزبة النخل بعيدا عن المحطة .. وكان يحيط بالفيلا حديقة برية نمت كما اتفق كأنها تسقى بماء الأمطار .. وتركت أشجارها وكل ما فيها من نبات وزهر للمقادير .. فمنذ وفاة زوجته .. وهو يعيش وحيدا ولا يدخل بيته خادم ولا بستانى ..

كان يأكل فى مطاعم القاهرة ويرسم لوحاته فى الأندية .. ويذهب إلى الفيلا فى آخر قطار لينام ..

ومرت حياته على هذا المنوال البوهيمى .. شهورا عدة .. وحدث فى صباح يوم من أيام الشتاء .. وكان نازلا من القطار فى محطة كوبرى الليمون كعادته .. فبصر بفتاة تجلس وحدها على مقعد فى المحطة ..

وكان وجهها معبرا ويبدو عليه الارهاق الشديد ..
ثم انطلق لشأنه ..

ولما رجع فى الليل ليركب آخر قطار ذاهب إلى المرج .. رآها جالسة على المقعد نفسه .. وكان قد أمضها الانتظار وحطم أعصابها .. فأخذت تتلفت فى قلق وتفحص كل الخارجين والداخلين من باب المحطة .. ثم ألقت برأسها على كتفها مستسلمة وفى تلك اللحظة تقدم إليها حسام الدين .. فركبت معه القطار إلى البيت ..

وكان فى وسط الحديقة بئر عليه دلو صغير .. فكانت مديحة .. تقضى الفراغ فى تحريك الدلو وسقى الأشجار .. وتجد فى ذلك لذة محببة .. وكان حسام يشاركها أحيانا فى سقى الحديقة ..

كانت تعرف طباعة وتعرف أنه لا يحب الأيدى الغريبة التى تعبث فى لوحاته .. وألوانه .. فكانت
تحافظ على أدوات عمله ولا تدع أحدا يدخل البيت فى غيابه ..

وكانت تتركه عصر كل خميس .. وتعود إلى عزبة النخل فى صباح السبت فى أول قطار .. يفتح عينيه على وجهها الجميل ..

وكانت تعود من غيبتها حزينة .. وقد ذهبت نضرة وجهها ..

فسألها مرة :
ـ إذا كان السفر يرهقك فلماذا تسافرين ..؟
ـ أنه لا يرهقنى .. وهو أمر لابد منه ..
ـ كما تحبين ..

وكانت وادعة وتحسن أمور البيت وتعرف طباعه وتحرص على راحته .. حتى حببت له الإقامة فى هذا المكان المقفر .. وأصبح يخرج الحامل إلى الحديقة .. ويجلس يرسم ساعة وساعات مستغرقا فى عمله .. فإذا ألقى الفرشاة جانبا .. كانت الشمس قد أذنت بالمغيب .. ويكون التعب قد نال منه .. وفى هذه اللحظة تظهر مديحة فى ممر الحديقة حاملة صينية القهوة .. فيتناول منها الفنجان ويأخذا فى فنون الأحاديث ..

وكان قد رسمها .. عارية .. ولابسة .. فى لوحات كبيرة .. ولكنه لم يعرض هذه اللوحات .. وجعل الوجه شبه مطموس .. ومذ دخلت بيته وهو يشعر بالنشاط فى جسمه وفى عقله .. وذهبت عنه الغمة التى نزلت به بعد موت زوجته .. وأصبح يجد فى مديحة العوض .. والأنثى التى يتمناها الفنان ..

ولكنه لم يشاهد مثل هذا الوجه المعبر .. وفكر فى حياتها معه .. وحرصها على راحته وسعادته .. وفى انسانيتها ورقتها .. واهتزت مشاعره .. وقرر أن يحدد علاقته بها .. وأن يتزوجها ..

ورأى أن يفاجئها ذات مساء بالمأذون داخلا معه البيت ..

وفى الأسبوع الذى قرر فيه الزواج بها .. اشتعلت نيران الحرب فى القنال وابتدأت الغارات .. واشترك معظم الرجال فى المعركة .. وكفنان فكر فى أن يشترك فى المعركة بريشته .. ويرسم لوحة كبيرة يعرضها فى ميدان المحطة .. أو فى طريق الجنود الذاهبين إلى الميدان ..

وفى وقت الغارات والظلام والقنابل .. كان يعمل بذهنه .. ولا يدع دقيقة واحدة تمر دون عمل ..

ولكن بعد مضى أربعة أيام كاملة .. من العمل المتصل .. لم تعجبه اللوحة ووضع الريشة جانبا .. واعتمد برأسه على راحته ..

وسألته مديحة وهى تقدم له القهوة :
ـ ما لك ..؟
ـ اللوحة .. كما ترين .. مطموسة .. ولا تعبر عن شىء ..
ـ حاول غيرها ..
ـ سأحاول .. ولكن ما النتيجة ..؟ ستكون مثلها ..
ـ ولماذا تقدر أن تكون مثلها ..؟
ـ لأنى أرسم نفسى .. أرسم طبيعتى المصرية السمحة .. طبيعة شعب مسالم .. يحب السلام .. ولا أعرف روح الشر .. التى تحرك هؤلاء الأوغاد ..
ـ وما العمل إذن ..؟
ـ يجب أن أذهب إلى ميدان القتال .. وأرى وجوه الوحوش الآدمية .. التى تدمر البيوت وترسل الصواعق من السماء ..

وفى اليوم التالى حاول أن يذهب إلى بور سعيد فلم يستطع ..

فعاد إلى بيته وفى رأسه فكرة جديدة .. ووجد فى البيت غلاما فى الثامنة من عمره يجلس بجانب مديحة وعرف منها أنه ابن خالتها وأنه جاء يقضى معها بضعة أيام خلال عطلة المدارس .. التى أغلقت بسبب الحرب ..

وسر حسام لوجود الغلام سرور مديحة به .. وكان يسمع صوته فى البيت .. وحركته الدافقة ..

وكانت مديحة فى أثناء الغارات الشديدة تجذب الغلام إلى صدرها وتمنعه من الحركة وكانت إذا ذهبت إلى السوق فى الصباح تأخذه معها ..

وكان أحيانا يذهب إلى السوق وحده ليشترى بعض الأشياء الصغيرة كالصابون والسجائر .. والحلوى ..

وبعد يومين اثنين أحسا بقيمة الغلام .. وضرورة وجوده معهما فقد كان يشيع فى البيت الحركة ..

***

وذات مساء .. وكان حسام الدين مشغولا برسم لوحة كبيرة .. سمع صفارة الإنذار .. فوضع الفرشاة جانبا .. وأطفأ المصباح وتمطى .. وقال فى مرارة .. وهو شاعر بالإخفاق :
ـ لا فائدة ترجى .. برغم هذا التعب .. والصورة لا تعبر عن شىء على الاطلاق ..

وسمعت مديحة فجزعت وسألته :
ـ لا تعبر عن شىء ..؟
ـ إطلاقا ..

وخيم الصمت .. وكانت قد وضعت الغلام فى الفراش ودثرته .. فلما اشتد ضرب القنابل عادت وحملته وهو نائم .. وجلست فى الصالة بجانب حسام .. وشعر بكآبة ..
وقال حسام وكأنه يسمع هاتفا :
ـ أشعر بأننى سأموت .. كيف نواجه الشر ..؟
ـ بقلب صلد ..
ـ هذا صحيح .. ولكن هناك أناس فى العالم يصنعون الحروب .. ويعيشون ليدمروا حضارة البشر .. فكيف نواجههم .. وكيف نسحقهم ..؟ هذا هو السؤال .. منذ آلاف السنين وهم يصنعون الحروب ويقتلون النساء والأطفال .. فكيف نواجههم بقوى الخير التى فى الإنسان ..؟ إذا واجهناهم بوداعتنا وحمامة السلام التى على وجوهنا سحقونا .. وإذا أرسلنا عليهم القنابل المدمرة وصفونا بالتوحش .. هذا شىء يحير ..

وابتسمت وهى تستمع إلى حماسته .. ثم سمعته يقول وهو يخصها بالحديث :
ـ أشعر بأنى سأموت اليوم أو غدا .. وليس لى سواك .. فأرجو أن تدفنينى فى الإمام ولا تدفنينى فى المجاورين .. بجوار عبد الخالق ..
وضحكت .. حتى اهتز جسمها ..

كان يحدثها دائما عن قريبه عبد الخالق هذا .. بمثل هذه المرارة ..

وعصر يوم من أيام السبت وكان النهار قد انقضى من غير غارات شعر حسام بحاجته إلى السجائر .. فأرسلت مديحة " سرى " إلى بائع قريب فخرج الغلام يعدو .. وبعد خروجه مباشرة دوت صفارة الإنذار فنادته مديحة لترجعه .. ولكنه كان قد ابتعد فى الشارع فلم يسمعها وبعد قليل سمعت مديحة ضرب وصوت القنابل ولما خرجت إلى الشارع كانت الطائرات المغيرة تحلق على ارتفاع منخفض وتضرب الناس بالمدافع الرشاشة ..

فجرت مذعورة .. وهى تصيح :
ـ ابنى .. ابنى ..

وبعد عشر دقائق رآها الناس تحمل كتلة من اللحم على صدرها وكانت تمشى ثابتة الخطى وقد جف دمعها .. ورآها حسام تمشى فى الطريق الطويل مع الشمس الغاربة .. والغلام على صدرها .. وجموع الناس حولها ..

***

وفى الصباح أخذت مديحة تجمع ملابسها ..
وسألها حسام والدمع فى عينيه :
ـ إلى أين ..؟
ـ لقد ذهب الشىء الذى كنت لأجله أعيش معك .. وأتنفس لأرعاه وأتحمل المشاق لأطعمه فكيف أبقى ..؟
ـ لم تحدثينى قط عنه ..
ـ وهل كنت تبقينى فى بيتك لو عرفت أن لى ولدا ..؟
ـ طبعا ..
ـ أبدا .. ولا ساعة واحدة .. وأنا أعرف الرجال .. وأعرف أنانيتهم ..
ـ قد لا تعرفين .. أننى عزمت من شهور طويلة على أن نتزوج وبعد أيام سأنفذ الفكرة ..
ـ أننى الآن لا أصلح لأى شىء .. لقد ذهبت روحى .. وهل تقبل أن أعيش معك من غير روح ..؟
ـ أقبل ..
ـ إن قبلت أنت .. فلا أقبل أنا .. مستحيل .. أننى ذاهبة ..
ـ وهل .. هو .. الذى كنت تذهبين إليه كل خميس ..؟
ـ طبعا .. ولم أكن أسافر .. لأى بلد كما قلت لك .. كان فى القاهرة .. تركته عند سيدة ترعاه .. وكنت أعطيها كل شىء .. ولما دخل المدرسة واشتد ساعده .. وأصبح فرحتى الكبرى .. ذهب .. ككل شىء فى الحياة ..
وأخذتها العبرات ..

وسألها :
ـ إلى أين أنت ذاهبة .. هل لك أقرباء فى القاهرة ..؟
ـ أبدا .. ولكنى سأمشى .. فى المدينة وأقف على رءوس الشوارع والميادين وأقول للناس .. قاتلوا الوحوش .. قاتلوا الأندال .. قبل أن يقتلوكم ..
ـ وبعد هذا ..؟
ـ وبعد هذا .. يحدث الله أمرا ..
وأخذت طريقها إلى الباب الخارجى .. وحاول منعها فلم يستطع ..

***

وجلس بعد أن ذهبت .. صامتا .. حزينا .. ثم تحرك وجلس إلى اللوحة وأخذ يرسم وهو منفعل .. المشهد المسيطر على ذهنه والآخذ بحواسه .. المشهد الذى رآه .. صورة الأم وهى تحمل غلامها الشهيد .. ووراءها الجموع الزاخرة تحمل البنادق والخناجر لترد على العدوان بما هو أشد منه .. وعندما فرغ من الرسم وتأمله .. رضى عن نفسه وأدرك السبب الجوهرى الذى جعل اللوحة .. معبرة .. وحية ..


ـــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت فى صحيفة الشعب بالعدد 198 بتاريخ 20/12/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1960
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

اللوحة

اللـوحــة

قصة محمود البدوى

كان حسام الدين رساما مشهورا ولوحاته الفنية حديث الناس فى المجتمع ..

وكان يسكن فى " فيلا " صغيرة من طابق واحد فى عزبة النخل بعيدا عن المحطة .. وكان يحيط بالفيلا حديقة برية نمت كما اتفق كأنها تسقى بماء الأمطار .. وتركت أشجارها وكل ما فيها من نبات وزهر للمقادير .. فمنذ وفاة زوجته .. وهو يعيش وحيدا ولا يدخل بيته خادم ولا بستانى ..

كان يأكل فى مطاعم القاهرة ويرسم لوحاته فى الأندية .. ويذهب إلى الفيلا فى آخر قطار لينام ..

ومرت حياته على هذا المنوال البوهيمى .. شهورا عدة .. وحدث فى صباح يوم من أيام الشتاء .. وكان نازلا من القطار فى محطة كوبرى الليمون كعادته .. فبصر بفتاة تجلس وحدها على مقعد فى المحطة ..

وكان وجهها معبرا ويبدو عليه الارهاق الشديد ..
ثم انطلق لشأنه ..

ولما رجع فى الليل ليركب آخر قطار ذاهب إلى المرج .. رآها جالسة على المقعد نفسه .. وكان قد أمضها الانتظار وحطم أعصابها .. فأخذت تتلفت فى قلق وتفحص كل الخارجين والداخلين من باب المحطة .. ثم ألقت برأسها على كتفها مستسلمة وفى تلك اللحظة تقدم إليها حسام الدين .. فركبت معه القطار إلى البيت ..

وكان فى وسط الحديقة بئر عليه دلو صغير .. فكانت مديحة .. تقضى الفراغ فى تحريك الدلو وسقى الأشجار .. وتجد فى ذلك لذة محببة .. وكان حسام يشاركها أحيانا فى سقى الحديقة ..

كانت تعرف طباعة وتعرف أنه لا يحب الأيدى الغريبة التى تعبث فى لوحاته .. وألوانه .. فكانت
تحافظ على أدوات عمله ولا تدع أحدا يدخل البيت فى غيابه ..

وكانت تتركه عصر كل خميس .. وتعود إلى عزبة النخل فى صباح السبت فى أول قطار .. يفتح عينيه على وجهها الجميل ..

وكانت تعود من غيبتها حزينة .. وقد ذهبت نضرة وجهها ..

فسألها مرة :
ـ إذا كان السفر يرهقك فلماذا تسافرين ..؟
ـ أنه لا يرهقنى .. وهو أمر لابد منه ..
ـ كما تحبين ..

وكانت وادعة وتحسن أمور البيت وتعرف طباعه وتحرص على راحته .. حتى حببت له الإقامة فى هذا المكان المقفر .. وأصبح يخرج الحامل إلى الحديقة .. ويجلس يرسم ساعة وساعات مستغرقا فى عمله .. فإذا ألقى الفرشاة جانبا .. كانت الشمس قد أذنت بالمغيب .. ويكون التعب قد نال منه .. وفى هذه اللحظة تظهر مديحة فى ممر الحديقة حاملة صينية القهوة .. فيتناول منها الفنجان ويأخذا فى فنون الأحاديث ..

وكان قد رسمها .. عارية .. ولابسة .. فى لوحات كبيرة .. ولكنه لم يعرض هذه اللوحات .. وجعل الوجه شبه مطموس .. ومذ دخلت بيته وهو يشعر بالنشاط فى جسمه وفى عقله .. وذهبت عنه الغمة التى نزلت به بعد موت زوجته .. وأصبح يجد فى مديحة العوض .. والأنثى التى يتمناها الفنان ..

ولكنه لم يشاهد مثل هذا الوجه المعبر .. وفكر فى حياتها معه .. وحرصها على راحته وسعادته .. وفى انسانيتها ورقتها .. واهتزت مشاعره .. وقرر أن يحدد علاقته بها .. وأن يتزوجها ..

ورأى أن يفاجئها ذات مساء بالمأذون داخلا معه البيت ..

وفى الأسبوع الذى قرر فيه الزواج بها .. اشتعلت نيران الحرب فى القنال وابتدأت الغارات .. واشترك معظم الرجال فى المعركة .. وكفنان فكر فى أن يشترك فى المعركة بريشته .. ويرسم لوحة كبيرة يعرضها فى ميدان المحطة .. أو فى طريق الجنود الذاهبين إلى الميدان ..

وفى وقت الغارات والظلام والقنابل .. كان يعمل بذهنه .. ولا يدع دقيقة واحدة تمر دون عمل ..

ولكن بعد مضى أربعة أيام كاملة .. من العمل المتصل .. لم تعجبه اللوحة ووضع الريشة جانبا .. واعتمد برأسه على راحته ..

وسألته مديحة وهى تقدم له القهوة :
ـ ما لك ..؟
ـ اللوحة .. كما ترين .. مطموسة .. ولا تعبر عن شىء ..
ـ حاول غيرها ..
ـ سأحاول .. ولكن ما النتيجة ..؟ ستكون مثلها ..
ـ ولماذا تقدر أن تكون مثلها ..؟
ـ لأنى أرسم نفسى .. أرسم طبيعتى المصرية السمحة .. طبيعة شعب مسالم .. يحب السلام .. ولا أعرف روح الشر .. التى تحرك هؤلاء الأوغاد ..
ـ وما العمل إذن ..؟
ـ يجب أن أذهب إلى ميدان القتال .. وأرى وجوه الوحوش الآدمية .. التى تدمر البيوت وترسل الصواعق من السماء ..

وفى اليوم التالى حاول أن يذهب إلى بور سعيد فلم يستطع ..

فعاد إلى بيته وفى رأسه فكرة جديدة .. ووجد فى البيت غلاما فى الثامنة من عمره يجلس بجانب مديحة وعرف منها أنه ابن خالتها وأنه جاء يقضى معها بضعة أيام خلال عطلة المدارس .. التى أغلقت بسبب الحرب ..

وسر حسام لوجود الغلام سرور مديحة به .. وكان يسمع صوته فى البيت .. وحركته الدافقة ..

وكانت مديحة فى أثناء الغارات الشديدة تجذب الغلام إلى صدرها وتمنعه من الحركة وكانت إذا ذهبت إلى السوق فى الصباح تأخذه معها ..

وكان أحيانا يذهب إلى السوق وحده ليشترى بعض الأشياء الصغيرة كالصابون والسجائر .. والحلوى ..

وبعد يومين اثنين أحسا بقيمة الغلام .. وضرورة وجوده معهما فقد كان يشيع فى البيت الحركة ..

***

وذات مساء .. وكان حسام الدين مشغولا برسم لوحة كبيرة .. سمع صفارة الإنذار .. فوضع الفرشاة جانبا .. وأطفأ المصباح وتمطى .. وقال فى مرارة .. وهو شاعر بالإخفاق :
ـ لا فائدة ترجى .. برغم هذا التعب .. والصورة لا تعبر عن شىء على الاطلاق ..

وسمعت مديحة فجزعت وسألته :
ـ لا تعبر عن شىء ..؟
ـ إطلاقا ..

وخيم الصمت .. وكانت قد وضعت الغلام فى الفراش ودثرته .. فلما اشتد ضرب القنابل عادت وحملته وهو نائم .. وجلست فى الصالة بجانب حسام .. وشعر بكآبة ..
وقال حسام وكأنه يسمع هاتفا :
ـ أشعر بأننى سأموت .. كيف نواجه الشر ..؟
ـ بقلب صلد ..
ـ هذا صحيح .. ولكن هناك أناس فى العالم يصنعون الحروب .. ويعيشون ليدمروا حضارة البشر .. فكيف نواجههم .. وكيف نسحقهم ..؟ هذا هو السؤال .. منذ آلاف السنين وهم يصنعون الحروب ويقتلون النساء والأطفال .. فكيف نواجههم بقوى الخير التى فى الإنسان ..؟ إذا واجهناهم بوداعتنا وحمامة السلام التى على وجوهنا سحقونا .. وإذا أرسلنا عليهم القنابل المدمرة وصفونا بالتوحش .. هذا شىء يحير ..

وابتسمت وهى تستمع إلى حماسته .. ثم سمعته يقول وهو يخصها بالحديث :
ـ أشعر بأنى سأموت اليوم أو غدا .. وليس لى سواك .. فأرجو أن تدفنينى فى الإمام ولا تدفنينى فى المجاورين .. بجوار عبد الخالق ..
وضحكت .. حتى اهتز جسمها ..

كان يحدثها دائما عن قريبه عبد الخالق هذا .. بمثل هذه المرارة ..

وعصر يوم من أيام السبت وكان النهار قد انقضى من غير غارات شعر حسام بحاجته إلى السجائر .. فأرسلت مديحة " سرى " إلى بائع قريب فخرج الغلام يعدو .. وبعد خروجه مباشرة دوت صفارة الإنذار فنادته مديحة لترجعه .. ولكنه كان قد ابتعد فى الشارع فلم يسمعها وبعد قليل سمعت مديحة ضرب وصوت القنابل ولما خرجت إلى الشارع كانت الطائرات المغيرة تحلق على ارتفاع منخفض وتضرب الناس بالمدافع الرشاشة ..

فجرت مذعورة .. وهى تصيح :
ـ ابنى .. ابنى ..

وبعد عشر دقائق رآها الناس تحمل كتلة من اللحم على صدرها وكانت تمشى ثابتة الخطى وقد جف دمعها .. ورآها حسام تمشى فى الطريق الطويل مع الشمس الغاربة .. والغلام على صدرها .. وجموع الناس حولها ..

***

وفى الصباح أخذت مديحة تجمع ملابسها ..
وسألها حسام والدمع فى عينيه :
ـ إلى أين ..؟
ـ لقد ذهب الشىء الذى كنت لأجله أعيش معك .. وأتنفس لأرعاه وأتحمل المشاق لأطعمه فكيف أبقى ..؟
ـ لم تحدثينى قط عنه ..
ـ وهل كنت تبقينى فى بيتك لو عرفت أن لى ولدا ..؟
ـ طبعا ..
ـ أبدا .. ولا ساعة واحدة .. وأنا أعرف الرجال .. وأعرف أنانيتهم ..
ـ قد لا تعرفين .. أننى عزمت من شهور طويلة على أن نتزوج وبعد أيام سأنفذ الفكرة ..
ـ أننى الآن لا أصلح لأى شىء .. لقد ذهبت روحى .. وهل تقبل أن أعيش معك من غير روح ..؟
ـ أقبل ..
ـ إن قبلت أنت .. فلا أقبل أنا .. مستحيل .. أننى ذاهبة ..
ـ وهل .. هو .. الذى كنت تذهبين إليه كل خميس ..؟
ـ طبعا .. ولم أكن أسافر .. لأى بلد كما قلت لك .. كان فى القاهرة .. تركته عند سيدة ترعاه .. وكنت أعطيها كل شىء .. ولما دخل المدرسة واشتد ساعده .. وأصبح فرحتى الكبرى .. ذهب .. ككل شىء فى الحياة ..
وأخذتها العبرات ..

وسألها :
ـ إلى أين أنت ذاهبة .. هل لك أقرباء فى القاهرة ..؟
ـ أبدا .. ولكنى سأمشى .. فى المدينة وأقف على رءوس الشوارع والميادين وأقول للناس .. قاتلوا الوحوش .. قاتلوا الأندال .. قبل أن يقتلوكم ..
ـ وبعد هذا ..؟
ـ وبعد هذا .. يحدث الله أمرا ..
وأخذت طريقها إلى الباب الخارجى .. وحاول منعها فلم يستطع ..

***

وجلس بعد أن ذهبت .. صامتا .. حزينا .. ثم تحرك وجلس إلى اللوحة وأخذ يرسم وهو منفعل .. المشهد المسيطر على ذهنه والآخذ بحواسه .. المشهد الذى رآه .. صورة الأم وهى تحمل غلامها الشهيد .. ووراءها الجموع الزاخرة تحمل البنادق والخناجر لترد على العدوان بما هو أشد منه .. وعندما فرغ من الرسم وتأمله .. رضى عن نفسه وأدرك السبب الجوهرى الذى جعل اللوحة .. معبرة .. وحية ..


ـــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت فى صحيفة الشعب بالعدد 198 بتاريخ 20/12/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1960
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الإشارة

الإشــارة

قصة محمود البدوى

حدث فى ليلة من ليالى الخريف ـ وكنت فى طريقى إلى بيتى بضاحية مصر الجديدة ـ أن رأيت سيدة تقف حائرة على رأس الطريق وتسأل عن شارع دكرنس ، ولما كنت أعرف موقع الشارع ، وكانت السيدة أجنبية ولاتستطيع التفاهم مع من تصادفه إلا بمشقة ، لأنها تجهل اللغة الدارجة ، فقد أشفقت عليها ومشيت بجانبها أدلها على الطريق .

ولما بلغنا المنزل الذى تقصده وقفت أترجم كلامها للبواب .

ولم تجد الرجل الذى تسأل عنه وتحمل عنوانه ، وعلمنا من البواب أنه ترك الشقة منذ أكثر من سبعة أشهر .. إلى حيث لايعلم .

ورأيت وجه السيدة يصفر وارتعش فمها وهى تسمع هذا الخبر ، كأنها كانت تعلق كل آمالها على لقاء الرجل الذى ذهب ، وعدنا مرة أخرى إلى الطريق .. وكانت صامتة تجتر أحزانها ثم سألتنى عن فندق أو بنسيون يمكن أن تقضى فيه الليل ، وعرفتها أنه لاتوجد بنسيونات فى هذه المنطقة .. ولايوجد إلا فندق واحد فى الضاحية وأجره مرتفع والأحسن أن تذهب إلى المدينة .. وتلقت كلامى دون تعليق ..

ومشيت بجوارى مستسلمة إلى محطة المترو ..وهناك تحت الضوء استطعت أن أميز قسمات وجهها ..

وكانت رشيقة حلوة ترتدى رداء سنجابيا من قطعة واحدة .. ظاهر فيه البساطة والرخص ولكنها بدت فيه أكثر فتنة .. وكانت فى الرابعة والعشرين من عمرها .. ويبدو عليها أنها تشكو من حالة نفسية أو قلق متمكن ، ووضعت الحقيبة الصغيرة التى كانت تمسك بها على الرصيف واستدارت إلىّ بوجهها .. ورأيت ابتسامة خفيفة لاحت على شفتيها ..

وقالت برقة :
ـ الظاهر أننا سننتظر طويلا .. تفضل أنت ..
ـ سأبقى حتى تركبى ..

وبدت منها حركة بسيطة .. فاقتربت منى ولاحظت أنها ليست طويلة القامة بل أقرب إلى القصر وعودها أكثر لينا ورشاقة مما قدرت أولا .

وكنت أفكر وأنا واقف معها فى السبب الذى جعلنى أخصها بكل هذه العناية ، الأنها جميلة أم لأنها وحيدة وغريبة فى مكان يبعد عن بيتها ، أم لأنى كنت أود أن أمرن لسانى على لغة تصورت أنى قد نسيتها تماما .. الواقع أنه مع هذه الأشياء مجتمعة فانى كنت أشتاق إلى مرافقة أنثى ولو لجولة قصيرة .

ولما طال انتظارنا فى المحطة .. وكانت تنظر إلىّ من وقت لآخر .. كأنها تبحث عن حل لورطتها ..

عرضت عليها فى بساطة أن تقضى الليل فى بيتى وقبلت مسرورة .. كأنها كانت تنتظر هذا العرض منذ التقينا ولم تجد الرجل الذى كانت تقصده ، ومشينا فى خطى رتيبة إلى البيت .

وكنت أسكن فى الطابق السادس من عمارة حديثة البناء .. فى شقة صغيرة من ثلاث غرف مجاورة للصحراء مباشرة .. وقريبة من المطار .. وسرت السيدة منها ومن جمال الحى وهدوء الصحراء .. وسرت أكثر لما وجدتنى وحدى دون خادم أو أى انسان يشاركنى فى المعيشة .

واشتركنا معا فى اعداد العشاء وكان كل شىء فى الثلاجة .

وجلسنا نأكل .. وشعرت حقا بمتعة المؤانسة .. فقد كانت هيلين مع جمالها رقيقة الأنوثة ناعمة الصوت .. دافقة العواطف ..

وعادت إلى روحها المكتئبة بعض البهجة فتفتحت نفسها ، وأخذت تتحدث بطلاقة حتى أخذت بحلاوة حديثها .. وحتى قضينا وقتا طويلا على المائدة .. وبعد العشاء .. تركت لها غرفتى لتخلع بها ملابسها وتستريح من تعب السفر ..

وكنت أتوقع أنها تنام على التو ولكنها خرجت بعد دقائق وظلت تبحث عنى حتى وجدتنى فى الشرفة ..

فقلت لها :
ـ أتأخذين سيجارة ..؟
ـ لامانع .. وان كنت لاأدخن كمدمنة ..
ـ ردىء كالمعتاد ..
ـ أحس بحلقى كله يلتهب ..
ـ هذا أحسن .. لكى لاتضعى سيجارة فى فمك الجميل مرة أخرى ..
وابتسمت ..

وسألت بصوت أكثر نعومة :
ـ أتعيش هنا وحدك ..؟
ـ نعم ..
ـ ولا أحد معك ..؟
ـ لا أحد على الاطلاق ..
ـ ولكن الشقة كاملة .. لاينقصها شىء وغرفة النوم غرفة عروس ..؟
ـ لقد ورثتها عن زوجتى .. ماتت فى العام الماضى ..
ولاحظت الأسى على وجهى ..
ـ آسفة لأنى أثرت أشجانك ..
ـ أبدا .. لقد استراحت من عذاب طويل .. كانت مريضة بالسرطان ..
ـ لماذا لم تتزوج بعدها .. انك شـاب .. وأمامك الحياة كلها ..
ـ لقد مررت بتجربة قاسية .. ولا أحب أن تتكرر ..
ـ لقد فقدت زوجى .. كما فقدت زوجتك .. كان لى زوج ولم يكن شيئا فى عداد الرجال .. ولكن بعد أن مات أحسست بفجوة .. وبفراغ رهيب ..

وكنت أعرف شعور الأرملة الوحيدة .. عندما تجد نفسها مرة واحدة فى وجه العاصفة فقلت لها برقة :
ـ أعرف شعورك ..
ـ لم يكن أكثر من خيط .. رفيع .. واه .. ولكنه يربطنى بالحياة ويجعلنى أحس بجريانها حولى .. أما الآن فأنا أحس بالموات ..
وكنت أعرف معنى كلامها وأطرقت ..
وكانت تبدو كمن عانى كثيرا ومر بمرحلة قاسية ..
وسألتها ..
ـ وأنت الآن مثلى لاتفكرين فى الزواج مرة أخرى ..؟
فزمت شفتيها مع حركة من رأسها وقالت ..
ـ اننى الآن .. أبحث عن عمل وسأجده ..

واستأذنت لتذهب إلى الفراش وكنت أستطيع أن أذهب وراءها .. وأقضى الليل معها ولكنى ترفعت عن هذا العمل .. بسبب لا أعرفه بالضبط .. والإنسان لايستطيع فى كل وقت أن يوضح مشاعره وقد يكون لأننى شئت ألا أجعلها تشعر بأننى أتقاضى أجر راحتها فى بيتى .. أو أجعلها تحس بأنها سهلة المنال من أول لقاء ..

وفى الصباح استيقظت مبكرة .. وأعدت لنا الشاى .. وعندما ارتدت ملابسها وتزينت .. وتناولت حقيبتها .. واستعدت للخروج .. تفجرت عواطفها على الباب .. وأنا أمد اليها يدى مودعا ..

***

ومر عام كامل .. وفى ليلة من ليالى أكتوبر .. وكنا فى اليوم الثانى من المعركة بيننا وبين الإنجليز والفرنسيين فى القنال وكنت أتناول معطفى .. وبندقيتى .. وأتهيأ للخروج .. سمعت جرس الباب الخارجى يدق .. ولما فتحت الباب وجدت هيلين على العتبة .. وكانت تحمل حقيبة صغيرة ..
ودخلت مشرقة .. وبادرتها بقولى ..
ـ كيف اهتديت إلى البيت فى هذا الظلام ..؟
ـ انه منقوش فى ذاكرتى .. يا اسماعيل ولا يمكن أن أنسـاه .. وأنسى الليــلة التى قضيتها معك .. كان لابد أن أراك ..

وعجبت لأن اسمى ظل فى ذاكرتها بعد عام كامل .. وسألتها ..
ـ أرجو أن تطول اقامتك فى هذه المرة ..
ـ جئت لأقضى معك اسبوعا كاملا .. اننى فى أجازة .. ورأيت أن أقضيها معك لأنى أشعر بالسعادة والأمان ..
ـ من حسن حظى أن تفكرى فى المجىء إلىّ فى هذا الوقت .. لتؤنسينى ..
ـ رأيت الناس ينظرون إلىّ فى الشارع بقوة .. فقلت لنفسى لعلهم تصوروا أننى يهودية .. لأننى لا أضع الصليب على صدرى .. وخفت .. وجريت اليك ..
ـ حسنا ما فعلت .. ولكن الناس هنا .. لايؤذون أحدا .. فكونى آمنة ولا تتصورى هذه التصورات ..
ـ ولماذا هذه البندقية .. هل أنت ضابط ..؟
ـ اننى متطوع فى الحرس الوطنى .. وسأضطر لتركك الآن .. وسأجىء فى الفجر .
ـ وتتركنى وحدى فى هذا الظلام ..؟
ـ لاتخافى .. اننى فى الشارع لأحميك .. وإذا حدثت غارة فانزلى إلى الدور الأرضى .
ـ لن أبرح مكانى ..
ـ لماذا ..؟

ـ ان الناس إذا اجتمعوا فى مكان واحد يتسلط عليهم خوف واحد من عدو مشترك .. الموت .. ويصبح حديثهم كله عن حوادث الغارات .. وليس عندى أعصاب لهذا ..
ـ كما تشائين ..

وتركتها .. وفى الفجر .. لما عدت كانت نائمة .. وأشفقت عليها من الليلة العنيفة التى انقضت فقد استمرت الغارات طول الليل ..

وفى الصباح لما نهضت من الفراش .. فكرت فى أن أجىء لها بسيدة أعرفها لتؤنسها فى وحدتها ما دامت لاتحب النزول إلى الدور الأرضى فى وقت الغارات .. ولكنها رفضت .. وقالت لى أنها مستريحة .. وأنها تنام نوما عميقا ولا تحس بالغارات اطلاقا .. ولا داعى لأن أغير أى شىء من نظام حياتى من أجلها ، وذهبت لبعض شئونى ولما عدت إلى البيت فى العصر .. استأذنت لتتريض ساعة .. وكنت فى حاجة إلى النوم لأنى قضيت الليل ساهرا فتركتها تذهب وحدها وعادت قبل الظلام .. وأنا أستعد للخروج .. فقالت وهى داخلة ..
ـ الأحسن أن أسافر ..
ـ لماذا ..
ـ لأنك لاتمكث معى أكثر من دقيقة .. هل أنت نازل .. و ..

ولم أرد عليها .. والواقع أن كلمة السفر أزعجتنى فقد عادت إلىّ هيلين فى ظروف سيئة .. ولا مجال فيها للعواطف .. ولم أكن أمكث معها فى الليل الطويل .. أكثر من دقائق خاطفة ..

وأحسست فى أعماقى بأنى أحبها .. كما يحب الرجل المرأة بكل حواسه .. وكل قلبه .. ولكننى برغم قربها منى ووجودها فى بيتى كنت بعيدا عنها ..

لأنى كنت مشغولا بما هو أهم .. كنت مشغولا بوطنى .. الذى تحوم فوقه طائرات الأعداء .. وبالناس الذين أحبهم والذين فوجئوا بالعدوان الوحشى فهبوا جميعا لملاقاته ..

وكان الضرب شديدا على منطقة مصر الجديدة فى الليلة الفائتة .. فترك كثيرون من السكان مساكنهم وذهبوا إلى الريف .. أو إلى أقربائهم فى القاهرة .. وبقى فى العمارة التى أسكنها البواب .. وساكن واحد ..

وعرضت على هيلين أن تمضى يومين عند قريبة لى فى القاهرة حتى ينجلى الموقف .. فرفضت .. وقالت لى .. أنها ستظل بجوارى مهما تطورت الأحوال ..

وفى الليل اشتدت الغارات على المطارات .. وضرب المطار الذى بجوارنا .. فغضبت .. وان كنت أعرف أن الطائرات التى فيه عبارة عن هياكل خشبية .. ولكن تملكنى الغضب لأنهم ضربوا المطار ضربا مركزا يدل على علمهم الدقيق بموقعه ..

وفى الضحى .. أخذت طائرات الأعداء تقترب من الأرض وتضرب الأهالى .. بالمدافع الرشاشة .. وأصيب صبى صغير فى شارع " الأسود " برصاصة .. فسقط وكانت هيلين فى النافذة .. فجرت إليه ووضعته على صدرها .. حتى جاءت عربة الاسعاف ..

***

وظلت طول النهار حزينة تبكى .. وفى الليل .. لما رأتنى أشرع فى ارتداء ملابسى لأذهب إلى موقعى .. اقتربت منى وطوقتنى بذراعيها وغمرتنى بقبلاتها وهمست ..
ـ هل من الضرورى أن تذهب الليلة ؟ ان هناك كثيرين غيرك .. أبق معى ..
ـ هل أنت خائفة من شىء ..؟
ـ خائفة من الموت .. لأول مرة فى حياتى ..
ـ وليس فى استطاعتى أن أتخلف عن واجبى ..
ـ ذاهب إذن ..؟
ـ لابد من هذا ..
وارتمت على صدرى .. وأخذت تبكى ..

***

وكان الظلام رهيبا .. والبيوت تبدو كالجبال السوداء .. والأشجار كالأشباح وكانت الرجل تنقطع فى المنطقة من الغروب .. ولاتسمع إلا صوت صفارة الانذار وهمسات الجنود فى الخنادق القريبة .. وومضة سيجارة من حين إلى حين وقد يشق الظلام لسان طويل من الضوء .. وتظهر عربة من عربات السلاح وهى فى طريقها إلى خط النار ..

وكنت مكلفا بالمرور على ثلاثة شوارع رئيسية فى المنطقة .. ولمحت من بعيد عربة تتوقف .. قريبا من الصحراء .. وقدرت أنها تعطلت أو ضلت الطريق ، فاقتربت منها ووجدتها دبابة ضخمة ذاهبة إلى الميدان وعرفت السائق الطريق فدار دورتين ثم أخذ الشارع الرئيسى ومرت بعده قافلة من العربات والسيارات وهى تسرع إلى الميدان ..

وفى تلك اللحظة دوت صفارة الانذار وظللت فى مكانى لحظات ثم خرجت إلى الصحراء أنظر إلى بيتى من بعيد وكان غارقا فى الظلام وركزت بصرى فى نافذتنا الوحيدة التى تطل على الصحراء وكأننى أنظر إلى هيلين .. وتصورتها نائمة فى سريرى تحلم وشعرت بالشوق اليها وبهزة الانفعال .. وأدركت أننى أحببتها حبا عنيفا .. وأنها سيطرت على حواسى كلها ..

وسمعت صوت طائرات الأعداء فوقى فاستدرت وظهر لى ـ وأنا أستدير ـ نور انبعث لحظة من الوجهة الخلفية من السطح .. فركزت بصرى فرأيت بطارية ترسل أضواء .. إلى أعلا .. وبعد لحظات تأكدت أنها اشارات ضوئية .. ترسل إلى طائرات الأعداء ..

وفكرت سريعا فى الخائن الذى يمكن أن يقوم بمثل هذا العمل .. وجاءنى الجواب فى الحال .. فقد كان هناك رجل أجنبى يسكن حجرة على السطح ولا شك أنه جاسوس ولمت نفسى لأنى غفلت عن تنبيه السلطات إليه ..

ورأيت أن أصعد إلى العمارة بنفسى دون أن أحدث أية ضجة .. وأقبض عليه وهو فى غفلة منى متلبسا بجرمه ..

وعندما دخلت من الباب كان البواب نائما .. وخلعت نعلى قبل أن أصل إلى السطح وكان أزيز الطائرات فوقى يصم الآذان ..

ولمحت شيئا فى دثار أسود .. يرتكز فى براعة وتخف على حافة السور ويرسل الأضواء .. الحمراء .. والزرقاء .. من شىء فى يده ..

واقتـربت الطـائرة منـا .. وألقـت قنبلة رهيبة على المطار ..

وجن جنونى فى هذه اللحظة وسددت بندقيتى إلى الشبح .. وأطلقت .. رصاصة واحدة ..

وسمعت صرخة مكتومة وهوى الجسم على الأرض ..

ولما اقتربت محاذرا وتبينت وجههه فى الظلام ذعرت .. لقد رأيت هيلين وفى يدها جهاز اشارة يرسل كل الأضواء فنـزعتـه منهـا ووضعته فى جيبى .. وغطيت جسمها بمعطفى ..

وأحسست بحركة على السلم .. فجريت نازلا لأصرف الصاعدين .. فى هدوء قبل أن يدرك انسان ما حدث ..

وكان علىّ أن أدفن عواطفى فى جوف الصحراء قبل أن تشرق الشمس ..
================================
نشرت القصة بمجلة الرسالة الجديدة 1/7/1958 وأعيد نشرها بمجموعة الجمال الحزين لمحمود البدوى فى سنة 1962
================================




الإشارة

الإشــارة

قصة محمود البدوى

حدث فى ليلة من ليالى الخريف ـ وكنت فى طريقى إلى بيتى بضاحية مصر الجديدة ـ أن رأيت سيدة تقف حائرة على رأس الطريق وتسأل عن شارع دكرنس ، ولما كنت أعرف موقع الشارع ، وكانت السيدة أجنبية ولاتستطيع التفاهم مع من تصادفه إلا بمشقة ، لأنها تجهل اللغة الدارجة ، فقد أشفقت عليها ومشيت بجانبها أدلها على الطريق .

ولما بلغنا المنزل الذى تقصده وقفت أترجم كلامها للبواب .

ولم تجد الرجل الذى تسأل عنه وتحمل عنوانه ، وعلمنا من البواب أنه ترك الشقة منذ أكثر من سبعة أشهر .. إلى حيث لايعلم .

ورأيت وجه السيدة يصفر وارتعش فمها وهى تسمع هذا الخبر ، كأنها كانت تعلق كل آمالها على لقاء الرجل الذى ذهب ، وعدنا مرة أخرى إلى الطريق .. وكانت صامتة تجتر أحزانها ثم سألتنى عن فندق أو بنسيون يمكن أن تقضى فيه الليل ، وعرفتها أنه لاتوجد بنسيونات فى هذه المنطقة .. ولايوجد إلا فندق واحد فى الضاحية وأجره مرتفع والأحسن أن تذهب إلى المدينة .. وتلقت كلامى دون تعليق ..

ومشيت بجوارى مستسلمة إلى محطة المترو ..وهناك تحت الضوء استطعت أن أميز قسمات وجهها ..

وكانت رشيقة حلوة ترتدى رداء سنجابيا من قطعة واحدة .. ظاهر فيه البساطة والرخص ولكنها بدت فيه أكثر فتنة .. وكانت فى الرابعة والعشرين من عمرها .. ويبدو عليها أنها تشكو من حالة نفسية أو قلق متمكن ، ووضعت الحقيبة الصغيرة التى كانت تمسك بها على الرصيف واستدارت إلىّ بوجهها .. ورأيت ابتسامة خفيفة لاحت على شفتيها ..

وقالت برقة :
ـ الظاهر أننا سننتظر طويلا .. تفضل أنت ..
ـ سأبقى حتى تركبى ..

وبدت منها حركة بسيطة .. فاقتربت منى ولاحظت أنها ليست طويلة القامة بل أقرب إلى القصر وعودها أكثر لينا ورشاقة مما قدرت أولا .

وكنت أفكر وأنا واقف معها فى السبب الذى جعلنى أخصها بكل هذه العناية ، الأنها جميلة أم لأنها وحيدة وغريبة فى مكان يبعد عن بيتها ، أم لأنى كنت أود أن أمرن لسانى على لغة تصورت أنى قد نسيتها تماما .. الواقع أنه مع هذه الأشياء مجتمعة فانى كنت أشتاق إلى مرافقة أنثى ولو لجولة قصيرة .

ولما طال انتظارنا فى المحطة .. وكانت تنظر إلىّ من وقت لآخر .. كأنها تبحث عن حل لورطتها ..

عرضت عليها فى بساطة أن تقضى الليل فى بيتى وقبلت مسرورة .. كأنها كانت تنتظر هذا العرض منذ التقينا ولم تجد الرجل الذى كانت تقصده ، ومشينا فى خطى رتيبة إلى البيت .

وكنت أسكن فى الطابق السادس من عمارة حديثة البناء .. فى شقة صغيرة من ثلاث غرف مجاورة للصحراء مباشرة .. وقريبة من المطار .. وسرت السيدة منها ومن جمال الحى وهدوء الصحراء .. وسرت أكثر لما وجدتنى وحدى دون خادم أو أى انسان يشاركنى فى المعيشة .

واشتركنا معا فى اعداد العشاء وكان كل شىء فى الثلاجة .

وجلسنا نأكل .. وشعرت حقا بمتعة المؤانسة .. فقد كانت هيلين مع جمالها رقيقة الأنوثة ناعمة الصوت .. دافقة العواطف ..

وعادت إلى روحها المكتئبة بعض البهجة فتفتحت نفسها ، وأخذت تتحدث بطلاقة حتى أخذت بحلاوة حديثها .. وحتى قضينا وقتا طويلا على المائدة .. وبعد العشاء .. تركت لها غرفتى لتخلع بها ملابسها وتستريح من تعب السفر ..

وكنت أتوقع أنها تنام على التو ولكنها خرجت بعد دقائق وظلت تبحث عنى حتى وجدتنى فى الشرفة ..

فقلت لها :
ـ أتأخذين سيجارة ..؟
ـ لامانع .. وان كنت لاأدخن كمدمنة ..
ـ ردىء كالمعتاد ..
ـ أحس بحلقى كله يلتهب ..
ـ هذا أحسن .. لكى لاتضعى سيجارة فى فمك الجميل مرة أخرى ..
وابتسمت ..

وسألت بصوت أكثر نعومة :
ـ أتعيش هنا وحدك ..؟
ـ نعم ..
ـ ولا أحد معك ..؟
ـ لا أحد على الاطلاق ..
ـ ولكن الشقة كاملة .. لاينقصها شىء وغرفة النوم غرفة عروس ..؟
ـ لقد ورثتها عن زوجتى .. ماتت فى العام الماضى ..
ولاحظت الأسى على وجهى ..
ـ آسفة لأنى أثرت أشجانك ..
ـ أبدا .. لقد استراحت من عذاب طويل .. كانت مريضة بالسرطان ..
ـ لماذا لم تتزوج بعدها .. انك شـاب .. وأمامك الحياة كلها ..
ـ لقد مررت بتجربة قاسية .. ولا أحب أن تتكرر ..
ـ لقد فقدت زوجى .. كما فقدت زوجتك .. كان لى زوج ولم يكن شيئا فى عداد الرجال .. ولكن بعد أن مات أحسست بفجوة .. وبفراغ رهيب ..

وكنت أعرف شعور الأرملة الوحيدة .. عندما تجد نفسها مرة واحدة فى وجه العاصفة فقلت لها برقة :
ـ أعرف شعورك ..
ـ لم يكن أكثر من خيط .. رفيع .. واه .. ولكنه يربطنى بالحياة ويجعلنى أحس بجريانها حولى .. أما الآن فأنا أحس بالموات ..
وكنت أعرف معنى كلامها وأطرقت ..
وكانت تبدو كمن عانى كثيرا ومر بمرحلة قاسية ..
وسألتها ..
ـ وأنت الآن مثلى لاتفكرين فى الزواج مرة أخرى ..؟
فزمت شفتيها مع حركة من رأسها وقالت ..
ـ اننى الآن .. أبحث عن عمل وسأجده ..

واستأذنت لتذهب إلى الفراش وكنت أستطيع أن أذهب وراءها .. وأقضى الليل معها ولكنى ترفعت عن هذا العمل .. بسبب لا أعرفه بالضبط .. والإنسان لايستطيع فى كل وقت أن يوضح مشاعره وقد يكون لأننى شئت ألا أجعلها تشعر بأننى أتقاضى أجر راحتها فى بيتى .. أو أجعلها تحس بأنها سهلة المنال من أول لقاء ..

وفى الصباح استيقظت مبكرة .. وأعدت لنا الشاى .. وعندما ارتدت ملابسها وتزينت .. وتناولت حقيبتها .. واستعدت للخروج .. تفجرت عواطفها على الباب .. وأنا أمد اليها يدى مودعا ..

***

ومر عام كامل .. وفى ليلة من ليالى أكتوبر .. وكنا فى اليوم الثانى من المعركة بيننا وبين الإنجليز والفرنسيين فى القنال وكنت أتناول معطفى .. وبندقيتى .. وأتهيأ للخروج .. سمعت جرس الباب الخارجى يدق .. ولما فتحت الباب وجدت هيلين على العتبة .. وكانت تحمل حقيبة صغيرة ..
ودخلت مشرقة .. وبادرتها بقولى ..
ـ كيف اهتديت إلى البيت فى هذا الظلام ..؟
ـ انه منقوش فى ذاكرتى .. يا اسماعيل ولا يمكن أن أنسـاه .. وأنسى الليــلة التى قضيتها معك .. كان لابد أن أراك ..

وعجبت لأن اسمى ظل فى ذاكرتها بعد عام كامل .. وسألتها ..
ـ أرجو أن تطول اقامتك فى هذه المرة ..
ـ جئت لأقضى معك اسبوعا كاملا .. اننى فى أجازة .. ورأيت أن أقضيها معك لأنى أشعر بالسعادة والأمان ..
ـ من حسن حظى أن تفكرى فى المجىء إلىّ فى هذا الوقت .. لتؤنسينى ..
ـ رأيت الناس ينظرون إلىّ فى الشارع بقوة .. فقلت لنفسى لعلهم تصوروا أننى يهودية .. لأننى لا أضع الصليب على صدرى .. وخفت .. وجريت اليك ..
ـ حسنا ما فعلت .. ولكن الناس هنا .. لايؤذون أحدا .. فكونى آمنة ولا تتصورى هذه التصورات ..
ـ ولماذا هذه البندقية .. هل أنت ضابط ..؟
ـ اننى متطوع فى الحرس الوطنى .. وسأضطر لتركك الآن .. وسأجىء فى الفجر .
ـ وتتركنى وحدى فى هذا الظلام ..؟
ـ لاتخافى .. اننى فى الشارع لأحميك .. وإذا حدثت غارة فانزلى إلى الدور الأرضى .
ـ لن أبرح مكانى ..
ـ لماذا ..؟

ـ ان الناس إذا اجتمعوا فى مكان واحد يتسلط عليهم خوف واحد من عدو مشترك .. الموت .. ويصبح حديثهم كله عن حوادث الغارات .. وليس عندى أعصاب لهذا ..
ـ كما تشائين ..

وتركتها .. وفى الفجر .. لما عدت كانت نائمة .. وأشفقت عليها من الليلة العنيفة التى انقضت فقد استمرت الغارات طول الليل ..

وفى الصباح لما نهضت من الفراش .. فكرت فى أن أجىء لها بسيدة أعرفها لتؤنسها فى وحدتها ما دامت لاتحب النزول إلى الدور الأرضى فى وقت الغارات .. ولكنها رفضت .. وقالت لى أنها مستريحة .. وأنها تنام نوما عميقا ولا تحس بالغارات اطلاقا .. ولا داعى لأن أغير أى شىء من نظام حياتى من أجلها ، وذهبت لبعض شئونى ولما عدت إلى البيت فى العصر .. استأذنت لتتريض ساعة .. وكنت فى حاجة إلى النوم لأنى قضيت الليل ساهرا فتركتها تذهب وحدها وعادت قبل الظلام .. وأنا أستعد للخروج .. فقالت وهى داخلة ..
ـ الأحسن أن أسافر ..
ـ لماذا ..
ـ لأنك لاتمكث معى أكثر من دقيقة .. هل أنت نازل .. و ..

ولم أرد عليها .. والواقع أن كلمة السفر أزعجتنى فقد عادت إلىّ هيلين فى ظروف سيئة .. ولا مجال فيها للعواطف .. ولم أكن أمكث معها فى الليل الطويل .. أكثر من دقائق خاطفة ..

وأحسست فى أعماقى بأنى أحبها .. كما يحب الرجل المرأة بكل حواسه .. وكل قلبه .. ولكننى برغم قربها منى ووجودها فى بيتى كنت بعيدا عنها ..

لأنى كنت مشغولا بما هو أهم .. كنت مشغولا بوطنى .. الذى تحوم فوقه طائرات الأعداء .. وبالناس الذين أحبهم والذين فوجئوا بالعدوان الوحشى فهبوا جميعا لملاقاته ..

وكان الضرب شديدا على منطقة مصر الجديدة فى الليلة الفائتة .. فترك كثيرون من السكان مساكنهم وذهبوا إلى الريف .. أو إلى أقربائهم فى القاهرة .. وبقى فى العمارة التى أسكنها البواب .. وساكن واحد ..

وعرضت على هيلين أن تمضى يومين عند قريبة لى فى القاهرة حتى ينجلى الموقف .. فرفضت .. وقالت لى .. أنها ستظل بجوارى مهما تطورت الأحوال ..

وفى الليل اشتدت الغارات على المطارات .. وضرب المطار الذى بجوارنا .. فغضبت .. وان كنت أعرف أن الطائرات التى فيه عبارة عن هياكل خشبية .. ولكن تملكنى الغضب لأنهم ضربوا المطار ضربا مركزا يدل على علمهم الدقيق بموقعه ..

وفى الضحى .. أخذت طائرات الأعداء تقترب من الأرض وتضرب الأهالى .. بالمدافع الرشاشة .. وأصيب صبى صغير فى شارع " الأسود " برصاصة .. فسقط وكانت هيلين فى النافذة .. فجرت إليه ووضعته على صدرها .. حتى جاءت عربة الاسعاف ..

***

وظلت طول النهار حزينة تبكى .. وفى الليل .. لما رأتنى أشرع فى ارتداء ملابسى لأذهب إلى موقعى .. اقتربت منى وطوقتنى بذراعيها وغمرتنى بقبلاتها وهمست ..
ـ هل من الضرورى أن تذهب الليلة ؟ ان هناك كثيرين غيرك .. أبق معى ..
ـ هل أنت خائفة من شىء ..؟
ـ خائفة من الموت .. لأول مرة فى حياتى ..
ـ وليس فى استطاعتى أن أتخلف عن واجبى ..
ـ ذاهب إذن ..؟
ـ لابد من هذا ..
وارتمت على صدرى .. وأخذت تبكى ..

***

وكان الظلام رهيبا .. والبيوت تبدو كالجبال السوداء .. والأشجار كالأشباح وكانت الرجل تنقطع فى المنطقة من الغروب .. ولاتسمع إلا صوت صفارة الانذار وهمسات الجنود فى الخنادق القريبة .. وومضة سيجارة من حين إلى حين وقد يشق الظلام لسان طويل من الضوء .. وتظهر عربة من عربات السلاح وهى فى طريقها إلى خط النار ..

وكنت مكلفا بالمرور على ثلاثة شوارع رئيسية فى المنطقة .. ولمحت من بعيد عربة تتوقف .. قريبا من الصحراء .. وقدرت أنها تعطلت أو ضلت الطريق ، فاقتربت منها ووجدتها دبابة ضخمة ذاهبة إلى الميدان وعرفت السائق الطريق فدار دورتين ثم أخذ الشارع الرئيسى ومرت بعده قافلة من العربات والسيارات وهى تسرع إلى الميدان ..

وفى تلك اللحظة دوت صفارة الانذار وظللت فى مكانى لحظات ثم خرجت إلى الصحراء أنظر إلى بيتى من بعيد وكان غارقا فى الظلام وركزت بصرى فى نافذتنا الوحيدة التى تطل على الصحراء وكأننى أنظر إلى هيلين .. وتصورتها نائمة فى سريرى تحلم وشعرت بالشوق اليها وبهزة الانفعال .. وأدركت أننى أحببتها حبا عنيفا .. وأنها سيطرت على حواسى كلها ..

وسمعت صوت طائرات الأعداء فوقى فاستدرت وظهر لى ـ وأنا أستدير ـ نور انبعث لحظة من الوجهة الخلفية من السطح .. فركزت بصرى فرأيت بطارية ترسل أضواء .. إلى أعلا .. وبعد لحظات تأكدت أنها اشارات ضوئية .. ترسل إلى طائرات الأعداء ..

وفكرت سريعا فى الخائن الذى يمكن أن يقوم بمثل هذا العمل .. وجاءنى الجواب فى الحال .. فقد كان هناك رجل أجنبى يسكن حجرة على السطح ولا شك أنه جاسوس ولمت نفسى لأنى غفلت عن تنبيه السلطات إليه ..

ورأيت أن أصعد إلى العمارة بنفسى دون أن أحدث أية ضجة .. وأقبض عليه وهو فى غفلة منى متلبسا بجرمه ..

وعندما دخلت من الباب كان البواب نائما .. وخلعت نعلى قبل أن أصل إلى السطح وكان أزيز الطائرات فوقى يصم الآذان ..

ولمحت شيئا فى دثار أسود .. يرتكز فى براعة وتخف على حافة السور ويرسل الأضواء .. الحمراء .. والزرقاء .. من شىء فى يده ..

واقتـربت الطـائرة منـا .. وألقـت قنبلة رهيبة على المطار ..

وجن جنونى فى هذه اللحظة وسددت بندقيتى إلى الشبح .. وأطلقت .. رصاصة واحدة ..

وسمعت صرخة مكتومة وهوى الجسم على الأرض ..

ولما اقتربت محاذرا وتبينت وجههه فى الظلام ذعرت .. لقد رأيت هيلين وفى يدها جهاز اشارة يرسل كل الأضواء فنـزعتـه منهـا ووضعته فى جيبى .. وغطيت جسمها بمعطفى ..

وأحسست بحركة على السلم .. فجريت نازلا لأصرف الصاعدين .. فى هدوء قبل أن يدرك انسان ما حدث ..

وكان علىّ أن أدفن عواطفى فى جوف الصحراء قبل أن تشرق الشمس ..
================================
نشرت القصة بمجلة الرسالة الجديدة 1/7/1958 وأعيد نشرها بمجموعة الجمال الحزين لمحمود البدوى فى سنة 1962
================================




رصاصة


رصاصـة
قصة محمود البدوى

كان القائد يزور مستشفى الحلمية .. يعود الجرحى ويوزع الحلوى على أبطال المعركة ..
ومكث فى الغرفة المخصصة للعمليات .. حتى فرغ الأطباء من اجراء عملية دقيقة لأحد الجنود .. ولما اطمأن تماما على حالته .. ترك له باقة من الزهر .. وعلبة من الحلوى وخرج .. وعرف من فى المستشفى قصة هذا الجندى وسبب اصابته ..
عرفوا قصة بطولته فى خليج السويس ..
عرفوا أنه أغرق وحده طرادة للأعداء .. وظل يقاتل والطائرات تحلق فوقه كالنحل .. ولما عجزت الطائرات عن اسكات مدفعه .. صبت عليه النار وحصرته فى دائرة مشتعلة .. لتقضى عليه القضاء الحتم .. ولكنه لم يعبأ بهذا كله وظل يقاتل ويرمى السفينة باللهب ..
وأصابته شظية فى بطنه .. وأخرى طيرت يده .. ومع هذا لم يسكت مدفعه .. كان يستعمل كل جوارحه الباقية ويحرك المدفع ويده تقطر بالدم .. حتى أغرق السفينة ..
كان كل من فى المستشفى يتحدث عن هذا البطل .. وفى شرفة المستشفى المطلة على الصحراء جلس ثلاثة من الأطباء يشربون الشاى ويتحدثون عن العملية الدقيقة التى أجريت له .. وقال الدكتور عارف :
ـ ان واحدا .. فى الألف .. يقوم من هذه العملية .. وأحسبه سلط إرادة الحياة علينا .. ونحن نقطع من مصارينه .. سلط جبروته .. ولهذا نجحت العملية ..
ـ وبمثل هذه الإرادة أغرق السفينة ..
ـ طبعا .. ولقد حدثنى البكباشى .. حسنى .. عن فاضل .. عندما اقتربت طرادة الأعداء من الخليج وأخذت تقذفه بالنار .. أدار وجهه لرفقائه .. وقال لهم بهدوء .. سأغرقها .. ولقد فعل ..
وتوقف الطبيب عن الحديث عندما شاهد احدى الممرضات المتطوعات خارجة .. من غرفة الجريح ..
وسألها وهى تمر :
ـ هل أفاق من البنج ..؟
ـ لا ولكنه سيصحو حالا ..
وابتسمت السيدة عن أجمل وجه .. وأجمل ثغر .. ثم مضت مسرعة فى الطرقة ..
وقال الطبيب .. وهو يستمع إلى وقع خطاها البعيد :
ـ كان " فاضـل " يرفض البنج .. ويقول أنه على استعـداد ولا
داعى للتخدير ..
وضحكت أنا والدكتور عزمى وفى غفلة منه خدرناه وأجرينا له العملية ..
وبعد أن فرغ الأطباء من شرب الشاى .. نهضوا ودخل الدكتور عارف .. غرفة الجريح .. وانصرف الباقون فى الممرات ..
***
ولما أفاق فاضل لم يكن يعرف ما جرى .. كان يتصور أنه لايزال فى قلب المعركة .. ثم رجع إلى نفسه ونظر إلى السرير .. وإلى حيطان الغرفة .. وإلى الممرضة الواقفة بجواره .. وحرك يده على بطنه ووجد الضمادات .. والأربطة فابتسم وأدرك كل شىء ..
وقبل الغروب .. دخل رجل طويل يلبس العمامة والجبة .. من باب المستشفى وسأل عن طبيب يعرفه من أطباء المستشفى وقاده جندى .. إلى قسم الجراحة وبعد قليل دخل غرفة " فاضل " وعرف الجميع أنه والده ..
دخل الشيخ الغرفة بهدوء .. وبعد لحظات كان كل انسان فيها يضحك من النوادر والملح التى يقصها عليهم ..
وأخذ الشيخ يسأل عن " بلدياته " من الجرحى .. ثم طاف بكل الغرف .. ورافقته سيدة جميلة من المتطوعات .. عرفت مقصده الإنسانى وساعدته على تحقيق رغبته .. وأخذ يوزع ما حمله .. من هدايا وحلوى
على الجرحى ..
وأخيرا سلم على ابنه فاضل .. وخرج يمشى فى الممر ..
وقبل أن يبلغ الباب الخارجى قابل طبيبا يعرفه .. فسلم عليه بحرارة ..
ولما خرج الشيخ سأل الأطباء زميلهم :
ـ أتعرف الرجل ..؟
ـ أجل .. أعرفه من سنوات ..
ـ أنه والد فاضل ..
ـ عرفت هذا منه الآن وهو يحادثنى على الباب .. ولقد أيقنت أن الشجاعة تورث .. كما تورث الصفات الأخرى .. وسأعرفكم ببعض الأشياء عن الرجل ..
وأنصت الأطباء للطبيب المتحدث :
ـ الشيخ عبد القادر والد فاضل من جحدم احدى القرى فى الصعيد .. وله قصة تروى كما تروى أساطير البطولة أيام حروب العرب .. وحروب طروادة ..
ـ قصة بطولة ..!؟
ـ أجل .. وسأرويها لكم الآن .. حتى لا تعجبوا من كل ما فعله ابنه فاضل .. وتعرفون أن البطولة فى الدم ..
كان الشيخ عبد القادر كبير الأسرة .. ويدير شئونها .. وكان مزارعا من المزارعين ..
وكان عنده خفير من الأعراب .. يحرس زراعته .. فاختلف معه .. وأعفاه من عمله ..
وفى الليلة التالية .. وجد الشيخ عبد القادر وهو يمر فى الغيط .. نفس الخفير المطرود يجنى فى القطن .. فاستاء منه .. ولكنه كتم عواطفه وأمره بلطف أن يلقى ما معه من قطن ويخرج من الغيط وتظاهر الأعرابى بالقبول .. ولكنه بدلا من أن يخرج من الغيط ارتكز فى القناة .. ومد فوهة البندقية نحو الشيخ عبد القادر فأخذ هذا يحاوره ويداوره ويستعمل معه كل لين ولطف .. ويفهمه أن لا فائدة تعود عليه من القتل .. كل ذلك والأعرابى لا يرتدع .. بل انتهز فرصة انشغال الشيخ عبد القادر بالحديث .. وأطلق عليه النار فى صدره .. ولكن شاء الله أن تخيب الطلقة .. وهنا صوب عليه الشيخ عبد القادر فى الحال من بندقيته الخرطوش فأرداه قتيلا .. ثم دخل ببندقيته إلى وابور هناك فى الغيط .. وأغلق الباب .. ومد ماسورة البندقية من فرجة وجدها فى الباب ..
وكان يعرف أن الأعراب يحيطون بالمنطقة وسيعلمون بالخبر بعد لحظات .. وفعلا علموا بمقتل ابنهم .. فتحركت جموعهم .. ومن عيونهم يقدح الشرر .. إلى مكان الحادث ..
وشاهدوا ابنهم القتيل ملقى فى القناة والشيخ عبد القادر فى داخل الوابور فثارت جموعهم .. وكانوا مسلحين بكل أنواع الأسلحة الحديثة من بنادق سريعة الطلقات ومدافع رشاشة .. وخناجر .. وهراوات .. وكان باب الوابور من الوهن بحيث يستطيع أن يدفعه طفل برجله ..
وصاح كبيرهم :
ـ افتح يا شيخ عبد القادر .. نحن لا نريد بك شرا .. افتح ..
ـ لا .. ومن يقترب منكم خطوة .. سيلحق بعسران وتأكله الكلاب ..
ـ افتح يا شيخ عبد القادر .. افتح ..
ـ أنا عندى مائة وخمسون طلقة .. وسيموت منكم رجال بعدد هذه الطلقات .. وبعد ذلك يمكن أن تفتحوا أنتم الباب ..
ـ افتح يا شيخ .. افتح ..
ـ فى الصباح .. عندما يعلم أهلى بما حدث .. ويجيئون مثلكم سأفتح الباب .. أما الآن فلا توجد قوة تجعلنى أفتحه ..
ووقفوا فى مكانهم مسمرين مذهولين ينظرون إلى فوهة البندقية ولا يستطيع واحد منهم أن يتقدم خطوة ..
ـ أنت قتلت عسران ..؟
ـ قتلته .. ومن يتقدم منكم سأقتله .. وتأكله الكلاب ..
ولم يضعف الشـيخ عبـد القادر فيقول لهم أنه ضربه دفاعـا عن
النفس .. بعد أن أطلق عسران النار عليه .. لم يشرح لهم ما حدث .. بل قال لهم أنه قتل وكفى .. ظل فى موقفه صامدا جبارا ..
وبعد ساعتين جاء رجال البوليس من المركز .. وكان الظلام يخيم والليل رهيبا .. وعلموا من الموجودين فى المكان أن الرجل استقتل .. ويرفض أن يفتح الباب ..
وصاح رئيس القوة ..
ـ افتح يا شيخ عبد القادر .. اننا البوليس ..
ـ ومن يدرينى .. أنها خدعة .. فى الليل .. والظلام .. لقد قررت أن أفتح الباب فى الصباح .. ولا توجد قوة على الأرض تثنينى عن هذا القرار ..
وكان المعاون حكيما .. فحاصر المكان إلى الصباح ..
وفى الصباح .. جاء أهله .. وفتح الشيخ عبد القادر الباب ووجدوا معه .. بندقية خرطوش .. بروحين ..!! وكان بها رصاصة واحدة .. ولم يكن معه سواها ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 185 بتاريخ 7/12/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الجريح

الجــريح
قصة محمود البدوى


كان " عبد الغنى " .. خفير مزلقان على السكة الحديد فى الخط الشرقى وكان المزلقان يبعد عن مدينة الإسماعيلية ببضعة كيلو مترات .

وعندما بدأت الحرب فى القنال يوم 29 اكتوبر .. لم يتغير شىء فى حياة عبد الغنى وفى الكوخ الذى يعيش فيه بجانب الشريط الحديدى .. فقط كان يرى قوافل السيارات والدبابات تتجه إلى الميدان .. ولا تنقطع التحركات لحظة وكان يقوم بحياته اليومية الرتيبة .. دون ملل . فعندما يسمع رنين الجرس فى الكشك الخشبى الصغير يتحرك سريعا ويغلق الخط ..

***

ولم يكن فى هذا المكان المنعزل عن الحياة .. يستمع إلى الراديو أو يقرأ الصحف .. فغابت عنه كل تطورات المعركة .. ولكن جوارحه كلها كانت تحس بها .. كان يحس بها من تحركات الجنود فى الطريق ومن القطارات المحملة بالعتاد والدبابات والمدرعات .. التى تمر بجانبه .. ومن طائرات الأعداء .. التى تلقى القنابل فى كل مكان ..

وكان الدكتور " قاسم " الطبيب فى أحد مستشفيات المدينة .. يمر بالمزلقان كل صباح وهو ذاهب إلى المستشفى .. وفى المساء وهو عائد منه .. وكان عبد الغنى يعرفه من سنوات ويحادثه كلما مر بسيارته ويسأله عن أخبار الحرب ..

ولكن الطبيب انقطع عن المرور بالمزلقان فانشغل عبد الغنى وخشى أن يكون الطبيب الشاب قد أصيب برصاص الأعداء .. وأن تكون الحوادث قد تطورت وحملت معها الأنباء المحزنة .. فتألم .. وكانت طاقته العصبية تدفعه إلى الحركة وإلى سؤال كل عابر فى الطريق .

***

وفى المساء .. سمع ما كان يخشاه .. سمع من سائق لورى عبر المزلقان .. أن الأعداء سيضربون بطائراتهم الخطوط الحديدية .

فوثب " عبد الغنى " إلى السائق ليخنقه ثم رجع إلى نفسه فأفلته .. ووقف بعد أن ذهب الرجل وغاب بسيارته .. ينظر إلى ما حوله .. ويتساءل .. يضربون الخطوط الحديدية .. القضبان .. والفلنكات .. وأسلاك التليفون .. وأعمدة البرق .. والزلط والتراب الذى بين الشريط .. هذه الأشياء كلها قطعة من لحمه وجزء من دمه منذ ثلاثين عاما وهو خفير فى المصلحة .. وقد شربت رئتاه من دخان القطارات وامتزج عرقه بزيتها .. وانطبعت يده على حديد البوابة .. التى يفتحها ويغلقها مرات فى الساعة ..

فكيف يدمر الخط .. ويعطل هذا الشريان الذى يتدفق فى دمه .. كيف .. ثار دمه وتيقظت حواسه كلها .. وكان غير مسلح .. فحمل بندقية سريعة ولم يعد مسئولا عن المزلقان وحده .. بل أصبح حارسا للشريط كله ..

وفى اليوم السابق للهجوم الغادر على ميناء بور سعيد ، اشتد الضرب فى هـذه المنطقة وفى منطقة التـل الكبير والقصاصين .. وكانت المدافع المضادة تمزق طائرات الأعداء وتصليها بالنار الحامية.

وكان عبد الغنى يرى بعض هذه الطائرات تحلق قريبا منه .. ثم تفرغ حمولتها وتلوذ بالفرار ، فكمن على ربوة بجانب الشريط وأخذ يطلق عليها النـار بشدة .. حتى تصور كل من سمـع الضرب أن هناك فصيلة كاملة تقاتل هذه الطائرات .. وترد على عدوانها ..

أخذت بندقيته تزأر .. وحاصرته الطائرات وألقت حوله القنابل المتفجرة .. ومع هذا لم يكف عن القتال .. ظل يقاتل .. ويقاتل .. حتى أصابته الشظايا .. فجرح جرحا دفينا .. وسكتت بندقيته وغاب عن الوجود ..

***

وعندما فتح عينيه .. وجد الظلام يخيم ومد بصره .. إلى الشريط .. فلم يستطع أن يرى شيئا .. فتحامل على نفسه والدم ينـزف منه وزحف ببطء ومشقة .. على الرمال وبعد ثلاثين مترا وجد أثر القنابل ..

وجد حفرة عميقة بجانب الخط ثم شهد القضبان ملتوية وطارت الفلنكات ودعائم الكوبرى الصغير الذى يمر فوقه القطار فانتفض قلبه .. وارتعش ونظر إلى النجوم .. وقدر أن الساعة بلغت الثامنة مساء وأحس بمثل الخنجر يمزق ظهره .. لأن قطار الركاب سيمر بعد عشر دقائق وتصور عبد الغنى الكارثة .. عندما تنقلب العربات وتحترق .. فارتعش وصرخ .. وتذكر القطارات الطويلة .. التى تمر بالليل محملة بالمدافع والدبابات والمؤن وتصورها عندما تقترب من هذا المكان وتنقلب عرباتها وقدر ما يصيب الوطن من خسارة فعاد يزحف وهو يتصبب عرقا وينزف دما .. حتى وصل إلى الكشك ومد يده إلى سماعة التليفون فتناولها ولكنه لم يستطع أن ينتصب .. وسقط .. بالسماعة على الأرض .. وجن وعاد يصرخ عندما سمع جرس الإشـارات يدق منـذرا باقتراب القطار . . والسائق لايعرف ما حدث على الخط وما من شخص ينبهه .

وحاول عبد الغنى أن يزحف على بطنه .. فلم يستطع أن يتحرك مقدار شبر واحد ، ولكن يده عثرت على شىء فتقلصت عليه ، ونظر إلى الكوخ فوق رأسه وعيدان الحطب بجواره .. ولمعت فى رأسه فكرة ولكنه قرر خطورتها .. لأنه سيحترق مع الكوخ عندما تقترب منه النار ولا يستطيع أن يتحرك ويبتعد عنها .. وتردد لحظات والعرق يتصبب من جسمه المحموم ، ولكنه سمع صفير القطار .. فجن .. وتناول عود الثقاب من جيبه .. وأشعل عودا من الحطب .. ورماه على القش فأشتعل الكوخ .. ورأى النور يتوهج ويقلب كل شىء إلى نهار مبصر ..

وكان القطار يصفر .. ثم لم يعد يسمع صفيره .. وغاب عن الوجود.

***

وعندما فتح عينيه .. وجد نفسه فى مستشفى الزقازيق .. والدكتور قاسم بجواره .. وعرف أن الدكتور التقطه فى اللحظة الحاسمة وانتشله من النار وهو مار بسيارته ولما سأل عبد الغنى عن القطار الذى كان يصفر .. وعرف أنه توقف على ضوء النهار قبـل الكوبرى المحطم .. بسبعة أمتار !
================================ نشرت القصة فى صحيفة الشعب المصرية 25/12/1956 وأعيد نشرها بمجموعة صقر الليل لمحمود البدوى 1971
================================

الجريح

الجــريح
قصة محمود البدوى


كان " عبد الغنى " .. خفير مزلقان على السكة الحديد فى الخط الشرقى وكان المزلقان يبعد عن مدينة الإسماعيلية ببضعة كيلو مترات .

وعندما بدأت الحرب فى القنال يوم 29 اكتوبر .. لم يتغير شىء فى حياة عبد الغنى وفى الكوخ الذى يعيش فيه بجانب الشريط الحديدى .. فقط كان يرى قوافل السيارات والدبابات تتجه إلى الميدان .. ولا تنقطع التحركات لحظة وكان يقوم بحياته اليومية الرتيبة .. دون ملل . فعندما يسمع رنين الجرس فى الكشك الخشبى الصغير يتحرك سريعا ويغلق الخط ..

***

ولم يكن فى هذا المكان المنعزل عن الحياة .. يستمع إلى الراديو أو يقرأ الصحف .. فغابت عنه كل تطورات المعركة .. ولكن جوارحه كلها كانت تحس بها .. كان يحس بها من تحركات الجنود فى الطريق ومن القطارات المحملة بالعتاد والدبابات والمدرعات .. التى تمر بجانبه .. ومن طائرات الأعداء .. التى تلقى القنابل فى كل مكان ..

وكان الدكتور " قاسم " الطبيب فى أحد مستشفيات المدينة .. يمر بالمزلقان كل صباح وهو ذاهب إلى المستشفى .. وفى المساء وهو عائد منه .. وكان عبد الغنى يعرفه من سنوات ويحادثه كلما مر بسيارته ويسأله عن أخبار الحرب ..

ولكن الطبيب انقطع عن المرور بالمزلقان فانشغل عبد الغنى وخشى أن يكون الطبيب الشاب قد أصيب برصاص الأعداء .. وأن تكون الحوادث قد تطورت وحملت معها الأنباء المحزنة .. فتألم .. وكانت طاقته العصبية تدفعه إلى الحركة وإلى سؤال كل عابر فى الطريق .

***

وفى المساء .. سمع ما كان يخشاه .. سمع من سائق لورى عبر المزلقان .. أن الأعداء سيضربون بطائراتهم الخطوط الحديدية .

فوثب " عبد الغنى " إلى السائق ليخنقه ثم رجع إلى نفسه فأفلته .. ووقف بعد أن ذهب الرجل وغاب بسيارته .. ينظر إلى ما حوله .. ويتساءل .. يضربون الخطوط الحديدية .. القضبان .. والفلنكات .. وأسلاك التليفون .. وأعمدة البرق .. والزلط والتراب الذى بين الشريط .. هذه الأشياء كلها قطعة من لحمه وجزء من دمه منذ ثلاثين عاما وهو خفير فى المصلحة .. وقد شربت رئتاه من دخان القطارات وامتزج عرقه بزيتها .. وانطبعت يده على حديد البوابة .. التى يفتحها ويغلقها مرات فى الساعة ..

فكيف يدمر الخط .. ويعطل هذا الشريان الذى يتدفق فى دمه .. كيف .. ثار دمه وتيقظت حواسه كلها .. وكان غير مسلح .. فحمل بندقية سريعة ولم يعد مسئولا عن المزلقان وحده .. بل أصبح حارسا للشريط كله ..

وفى اليوم السابق للهجوم الغادر على ميناء بور سعيد ، اشتد الضرب فى هـذه المنطقة وفى منطقة التـل الكبير والقصاصين .. وكانت المدافع المضادة تمزق طائرات الأعداء وتصليها بالنار الحامية.

وكان عبد الغنى يرى بعض هذه الطائرات تحلق قريبا منه .. ثم تفرغ حمولتها وتلوذ بالفرار ، فكمن على ربوة بجانب الشريط وأخذ يطلق عليها النـار بشدة .. حتى تصور كل من سمـع الضرب أن هناك فصيلة كاملة تقاتل هذه الطائرات .. وترد على عدوانها ..

أخذت بندقيته تزأر .. وحاصرته الطائرات وألقت حوله القنابل المتفجرة .. ومع هذا لم يكف عن القتال .. ظل يقاتل .. ويقاتل .. حتى أصابته الشظايا .. فجرح جرحا دفينا .. وسكتت بندقيته وغاب عن الوجود ..

***

وعندما فتح عينيه .. وجد الظلام يخيم ومد بصره .. إلى الشريط .. فلم يستطع أن يرى شيئا .. فتحامل على نفسه والدم ينـزف منه وزحف ببطء ومشقة .. على الرمال وبعد ثلاثين مترا وجد أثر القنابل ..

وجد حفرة عميقة بجانب الخط ثم شهد القضبان ملتوية وطارت الفلنكات ودعائم الكوبرى الصغير الذى يمر فوقه القطار فانتفض قلبه .. وارتعش ونظر إلى النجوم .. وقدر أن الساعة بلغت الثامنة مساء وأحس بمثل الخنجر يمزق ظهره .. لأن قطار الركاب سيمر بعد عشر دقائق وتصور عبد الغنى الكارثة .. عندما تنقلب العربات وتحترق .. فارتعش وصرخ .. وتذكر القطارات الطويلة .. التى تمر بالليل محملة بالمدافع والدبابات والمؤن وتصورها عندما تقترب من هذا المكان وتنقلب عرباتها وقدر ما يصيب الوطن من خسارة فعاد يزحف وهو يتصبب عرقا وينزف دما .. حتى وصل إلى الكشك ومد يده إلى سماعة التليفون فتناولها ولكنه لم يستطع أن ينتصب .. وسقط .. بالسماعة على الأرض .. وجن وعاد يصرخ عندما سمع جرس الإشـارات يدق منـذرا باقتراب القطار . . والسائق لايعرف ما حدث على الخط وما من شخص ينبهه .

وحاول عبد الغنى أن يزحف على بطنه .. فلم يستطع أن يتحرك مقدار شبر واحد ، ولكن يده عثرت على شىء فتقلصت عليه ، ونظر إلى الكوخ فوق رأسه وعيدان الحطب بجواره .. ولمعت فى رأسه فكرة ولكنه قرر خطورتها .. لأنه سيحترق مع الكوخ عندما تقترب منه النار ولا يستطيع أن يتحرك ويبتعد عنها .. وتردد لحظات والعرق يتصبب من جسمه المحموم ، ولكنه سمع صفير القطار .. فجن .. وتناول عود الثقاب من جيبه .. وأشعل عودا من الحطب .. ورماه على القش فأشتعل الكوخ .. ورأى النور يتوهج ويقلب كل شىء إلى نهار مبصر ..

وكان القطار يصفر .. ثم لم يعد يسمع صفيره .. وغاب عن الوجود.

***

وعندما فتح عينيه .. وجد نفسه فى مستشفى الزقازيق .. والدكتور قاسم بجواره .. وعرف أن الدكتور التقطه فى اللحظة الحاسمة وانتشله من النار وهو مار بسيارته ولما سأل عبد الغنى عن القطار الذى كان يصفر .. وعرف أنه توقف على ضوء النهار قبـل الكوبرى المحطم .. بسبعة أمتار !
================================ نشرت القصة فى صحيفة الشعب المصرية 25/12/1956 وأعيد نشرها بمجموعة صقر الليل لمحمود البدوى 1971
================================

الماس

الماس
قصة محمود البدوى

كان الأطفال يلعبون كعادتهم فى الميدان الفسيح .. ويجرون إلى المنتزة العام يقطفون الأزهار ويعبثون بالحشائش .. ويقفزون فوق خرطوم المياة الذى يسقى الحديقة .. وكان الترام يسير على بعد أمتار قليلة منهم يحمل الركاب إلى البيت .. وكانت السيارات تنطلق فى الشوارع كالسهام .. وكان الناس يشترون من الحوانيت .. والنساء يتبخترن فى الفساتين المعطرة .. والجوارب النيلون ..
وفجأة دوت صفارة الإنذار ..
ولما كانت الشمس لاتزال طالعة .. فإن شيئا لم يتغير فى المدينة .. ظلت الحركة كما هى .. فقط أخذ الناس يتطلعون من حين إلى حين إلى السماء .. وحتى الأطفال ظلوا فى مكانهم من المنتزة .. ولكن بعد ثلث الساعة انطلقت المدافع بقوة .. وأخذت الطائرات المغيرة تلقى القنابل المدمرة والحارقة على السكان الآمنين .. فجرى الناس من الشارع إلى البيوت والمخابىء ..
وفى صباح اليوم التالى .. أخذ السكان يرحلون الأطفال والنساء .. فأقفر المنتزة .. من ملائكته الأطهار .. وفى الليل اطفئت المصابيح وخيم الظلام ..
وكان " خليل " بوابا لإحدى العمارات الكبيرة التى نزلت بجوارها القنابل ..
وكانت السيدة " علية " من السكان الذين بقوا فى العمارة .. وكان زوجها قد ذهب إلى ميدان القتال ..
ورفضت " علية " أن تسافر إلى الريف .. لتكون قريبة من زوجها .. وتعرف أخباره ..
وفى بداية المعركة .. كانت تسمع أخباره يوميا .. ثم انقطعت الأخبار .. وانتابتها الهواجس .. وأخذ القلق .. يدمر أعصابها .. ولكنها عادت وطمأنت نفسها .. وأخذت تضم طفلها إلى صدرها وتضغط على عظامه وكأنها تحتضن والده ..
وفى مساء يوم سمعت همسا من الناس فى الشارع .. فعاودها الخوف والقلق ..
ولم يكن لها أهل فى المدينة .. وكان من تزورهن من صديقاتها قد رحلن بسبب الغارات .. وكانت عندها خادمة صغيرة .. تؤنسها .. فجاءت أم الفتاة ذات صباح من الجيزة لتسلم عليها .. وأخذت ابنتها وهى خارجة على أن تعود الفتاة بعد أن تركب الأم الترام ولكن الفتاة لم تعد ..
وأدركت " علية " .. أن الأم جاءت لتأخذ ابنتها .. خوفا من الغارات .. وأصبحت علية وحيدة فى الطابق كله هى وطفلها الرضيع ..
وكانت فى أول الأمر .. تظل فى شقتها بعد صفارة الإنذار .. ثم أصبحت تخاف من الجدران المظلمة .. الصامتة .. فأخذت تنزل إلى الطابق الأرضى .. فتجد البواب وثلاثة من السكان .. يتحدثون عن الغارات وطائرات الأعداء التى تسقط كالذباب ..
وكان الناس يتحدثون فى حماسة .. وكل منهم يروى قصة فذة من قصص البطولة لشعب يقاتل وحده ثلاث دول مجتمعة ..
وكان كل رجل من الموجودين فى العمارة يتطوع لخدمة " علية " .. ويخرج والطائرات تلقى القنابل ليأتى للطفل باللبن ..
وعندما تنتهى الغارة .. كانت تصعد حاملة الطفل إلى شقتها ..
ولما كانت الغارات متصلة .. فقد تعبت من الطلوع والنزول .. وقررت أن تبقى فى الدور العلوى .. مهما كانت الأحوال .. وكانت تخاف على الطفل .. فتضع يديها فى أذنيه حتى لا تسمعه صوت القنابل ..
ولما اشتدت الغارات ورأت نوافذ بيتها تصفر والسقف يهتز .. تصورت أن كل شىء سيسقط على رأسها .. فأخذت تخرج بالطفل إلى الممر الخارجى وتظل تروح وتجىء .. فى الظلام .. وحولها أبواب الشقق المغلقة الصامتة ..
ورأت أنها إذا ماتت ومعها الطفل فى هذا المكان فلن يحس بهما أحد .. وجعلها هذا الخاطر تغير مكانها .. فأخذت تنزل إلى الدور الأرضى كلما سمعت صفارة الإنذار وكان يسكن بجوار السلم مباشرة شاب مصرى يعمل فى أحد المحال التجارية وكان أعزب ويقيم وحده فى أصغر الشقق فى العمارة .. ومنذ بداية الحرب والغارات .. وهو يرى " علية " واقفة مع البواب فى المدخل .. أو ملتصقة بالجدار .. قريبا من بابه وعلى ذراعها الطفل ..
وكان ينظر إليها فى ألم ..
ولما طال وقوفها أخرج لها الشاب كرسيا من شقته .. فجلست وهى تشكره بصوت خافت ..
ولما امتدت الغارات إلى منتصف الليل .. ذات مرة .. عرض عليها الشاب أن تستريح فى شقته .. حتى لا يتعرض الغلام للبرد ..
ولخوفها على الطفل .. دخلت واستراحت فى الداخل ..
وفى كل ليلة كانت تدخل شقة هذا الشاب .. وتريح طفلها ..
وكانت تلاحظ أن الشاب .. بعد أن يدخلها ويدعها فى أمان .. ويقدم للرضيع الطعام .. والغطاء .. ينسحب إلى الخارج ..
وتكرر منه هذا العمل فتألمت وشعرت بالخجل .. وقالت له .. ذات ليلة وهو يدخلها :
ـ إذا خرجت .. لن أبقى فى بيتك .. تحمينا وتموت أنت .. لا ..
ولكنه كان يرفض .. ويحاورها ويداورها .. حتى تجلس فيخرج ويغلق عليها الباب .. ويقف هو فى الخارج ..
وكانت تدرك .. أن البواب .. وهذا الشاب الذى تستريح فى شقته .. ومن بقى من الرجال فى العمارة .. يقفون هناك فى المدخل .. ليحموها هى ..
وشعرت بارتياح كبير .. وحتى الرجال الذين كانوا يغازلونها قبل الحرب .. بنظراتهم .. أصبحوا ينظرون إليها الآن نظرة أخرى .. ويعاملونها كأخت .. كانت تقابلهم فى الظلام .. صاعدة السلم و نازلة منه .. وكان بعضهم يمسك بيدها .. ويعينها على أن تهبط .. حتى لا تسقط بالغلام ..
كان الجميع يعاملونها بإنسانية وشهامة الرجل مع امرأة وحيدة ..
وذات ليلة .. سقطت قنبلة فى الشارع المجاور .. فذعر السكان .. ووضعت " علية " غلامها على صدرها .. ومصاغها وحليها فى حقيبة صغيرة وأمسكت بها ..
وقبل أن تبعد كثيرا وجدت الشاب .. فى أثرها يعدو .. وحمل الطفل عنها واحتموا فى مدخل بيت كبير مهجور .. بعيدا عن منطقة الضرب ..
ونظرت إليه وهو واقف بجوارها لأول مرة .. ورأته قويا وادعا .. كانت عيناه تنطق بالوداعة والطيبة وجسمه قويا مفتولا .. وسألته :
ـ لماذا تعرض نفسك للموت من أجلى ..؟
ـ لم أمت بعد ..! وأفعل هذا وأكثر منه من أجل الغلام ..
ـ أنت غير متزوج .. وليس عندك أطفال .. فمن أين جئت بعاطفة
الأبوة ..؟!
ـ لا أعرف ..!! وانى أحس بقلبى يتمزق فى وقت الغارة .. وأنا أرى الأطفال .. وأود لو أصبح درعا كبيرا يطوقهم ويحميهم ..
ـ هل تشعر بهذا الآن لأن والد " سمير " يحارب فى الجبهة ..
ـ اننى لا أعرف زوجك يا سيدتى ..
ـ هذا صحيح .. ولقد نسيت هذا كله ..!! وأرجو المعذرة ..
ونظرت إليه .. وهو يحمل ابنها فى حنان صادق .. وكانت تود أن تسأله عن اسمه ..
ومذ وقف بجوارها وهى تشعر بالاطمئنان وذهب عنها الخوف الذى كانت تحس به وهى تجرى فى الليل وحدها .. وتذكرت أن الحقيبة الصغيرة سقطت منها وهى تجرى مذعورة وفيها كل ثروتها وكل حليها .. ولكنها خشيت إن حدثته عنها أن يذهب ليبحث عنها فتصيبه طائرات الأعداء .. ولذلك كتمت عنه الخبر كلية .. وأحست فى تلك اللحظة بضآلة ما ضاع .. بجانب ابنها سمير ..
وسألها الشاب .. بعد أن انتهت الغارة :
ـ إلى أين كنت ذاهبة ..؟
ـ لا أعرف .. أمشى وأمشى .. ويكفى أن سمير على صدرى ..
ـ إذن .. نروح ..
ومشت بجانبه .. إلى البيت ..
وقبل أن تبلغ باب شقتها وجدت خادما فى العمارة يصعد السلالم خلفها وكان يحمل الحقيبة التى سقطت منها ..
ولما أعطته بعض القروش لأمانته رفض .. وعجبت أن القنابل التى يلقيها الأعداء من طائراتهم غاصت فى الأرض .. ونبشتها وأظهرت الجواهر الخفية .. أظهرت الماس الكامن فى أعماقها .. أظهرت الجواهر النقية الكامنة فى النفوس والتى كان يغطيها التراب ..
وكان الشاب وهو خارج فى الصباح إلى عمله .. يسألها عن حاجتها ويحمل إليها وهو عائد من الخارج كل ما تحتاجه .. وكان فى الليل .. يترك لها شقته ..
وكان البواب .. لا يعنى بأحد مثل ما يعنى بها .. وكذلك كل خادم .. وكل رجل بقى فى العمارة .. الكل يسألونها عما تطلب ..
وعرض عليها أحدهم أن ينقلها إلى الريف مع أسرته بعيدا عن الغارات .. ولكنها كانت ترفض ..
كانت تود أن يأتى زوجها .. ويجدها كما تركها فى بيتها .. ولكن جرت الحوادث بسرعة .. وانقطعت أخباره .. حتى قطعت كل أمل وحتى جف دمعها .. وكانت تنظر إلى الغلام .. وترى فيه وجه والده .. ترى فيه سلوتها الباقية ..
وذات صباح خرج خلبل البواب ليصلى كعادته قبل الشمس وأصابه الأعداء برصاصة .. فسقط .. ولما علم الشاب الساكن فى الدور الأرضى بمقتل البواب .. تألم .. وأمسك بالبندقية وأصبح لا يبرح المنطقة ..
وكان يرى الجنود المصريين يرابطون فى مواقعهم على رأس الشوارع .. والطائرات تغير وتلقى القنابل والرصاص يدوى .. أو يصفر ..
ولم يفكر فى شىء كما فكر فى " علية " وطفلها اللذين أصبحا فى حماه الآن .. فى حماه وحده ..
وحزنت " علية " لموت البواب ولكنها لم تفكر فى أن تترك العمارة كما تركها غيرها ..
وفى عصر يوم اشتد ضرب النار .. وبدأت معركة رهيبة .. وكانت " علية " ترى الشاب الساكن تحت يتحرك فى المنطقة كالنحلة .. ولا يخيفه الرصاص المتساقط فوقه عن الوصول إلى بغيته ..
كان يقف على النواصى .. ويقيم المتاريس .. ويحمل للجنود المحاربين الماء ..
ولما سكت مدفع أحد الجنود البواسل .. حل الشاب محله فى الحال .. وأخذ يطلق النار بقوة .. وأسقط طائرة إنجليزية ورأت علية طائرة أخرى تهوى وفى ذيلها النار ..
وحميت المعركة .. وتكاثرت الطائرات فوق رأسه .. فصمت بعد أن أطلق آخر رصاصة ..
وكانت نظرته الأخيرة متجهة إلى نافذة " علية " ..
وتخشب جسم " علية " لحظة ثم وجدت نفسها تندفع بسرعة نحو الباب الخارجى وعلى بسطة السلم وجدت زوجها صاعدا .. وعلى وجهه سحنة من خرج لتوه من المعركة ..
ودفنت رأسها فى صدره وأخذت تبكى وهى تضمه بقوة ..
وسألته :
ـ هل .. انتقمت لنا من هؤلاء الأندال ..؟
ـ أجل .. وسأنتقم ..
ودخل يقبل الصغير .. وكانت الساعة تدق الخامسة .. وكأنها تنشد نشيدا حماسيا ..





=====================================
نشرت فى صحيفة الشعب ـ العدد 171 ـ بتاريخ 23/11/1956وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
=====================================

الماس

الماس
قصة محمود البدوى

كان الأطفال يلعبون كعادتهم فى الميدان الفسيح .. ويجرون إلى المنتزة العام يقطفون الأزهار ويعبثون بالحشائش .. ويقفزون فوق خرطوم المياة الذى يسقى الحديقة .. وكان الترام يسير على بعد أمتار قليلة منهم يحمل الركاب إلى البيت .. وكانت السيارات تنطلق فى الشوارع كالسهام .. وكان الناس يشترون من الحوانيت .. والنساء يتبخترن فى الفساتين المعطرة .. والجوارب النيلون ..
وفجأة دوت صفارة الإنذار ..
ولما كانت الشمس لاتزال طالعة .. فإن شيئا لم يتغير فى المدينة .. ظلت الحركة كما هى .. فقط أخذ الناس يتطلعون من حين إلى حين إلى السماء .. وحتى الأطفال ظلوا فى مكانهم من المنتزة .. ولكن بعد ثلث الساعة انطلقت المدافع بقوة .. وأخذت الطائرات المغيرة تلقى القنابل المدمرة والحارقة على السكان الآمنين .. فجرى الناس من الشارع إلى البيوت والمخابىء ..
وفى صباح اليوم التالى .. أخذ السكان يرحلون الأطفال والنساء .. فأقفر المنتزة .. من ملائكته الأطهار .. وفى الليل اطفئت المصابيح وخيم الظلام ..
وكان " خليل " بوابا لإحدى العمارات الكبيرة التى نزلت بجوارها القنابل ..
وكانت السيدة " علية " من السكان الذين بقوا فى العمارة .. وكان زوجها قد ذهب إلى ميدان القتال ..
ورفضت " علية " أن تسافر إلى الريف .. لتكون قريبة من زوجها .. وتعرف أخباره ..
وفى بداية المعركة .. كانت تسمع أخباره يوميا .. ثم انقطعت الأخبار .. وانتابتها الهواجس .. وأخذ القلق .. يدمر أعصابها .. ولكنها عادت وطمأنت نفسها .. وأخذت تضم طفلها إلى صدرها وتضغط على عظامه وكأنها تحتضن والده ..
وفى مساء يوم سمعت همسا من الناس فى الشارع .. فعاودها الخوف والقلق ..
ولم يكن لها أهل فى المدينة .. وكان من تزورهن من صديقاتها قد رحلن بسبب الغارات .. وكانت عندها خادمة صغيرة .. تؤنسها .. فجاءت أم الفتاة ذات صباح من الجيزة لتسلم عليها .. وأخذت ابنتها وهى خارجة على أن تعود الفتاة بعد أن تركب الأم الترام ولكن الفتاة لم تعد ..
وأدركت " علية " .. أن الأم جاءت لتأخذ ابنتها .. خوفا من الغارات .. وأصبحت علية وحيدة فى الطابق كله هى وطفلها الرضيع ..
وكانت فى أول الأمر .. تظل فى شقتها بعد صفارة الإنذار .. ثم أصبحت تخاف من الجدران المظلمة .. الصامتة .. فأخذت تنزل إلى الطابق الأرضى .. فتجد البواب وثلاثة من السكان .. يتحدثون عن الغارات وطائرات الأعداء التى تسقط كالذباب ..
وكان الناس يتحدثون فى حماسة .. وكل منهم يروى قصة فذة من قصص البطولة لشعب يقاتل وحده ثلاث دول مجتمعة ..
وكان كل رجل من الموجودين فى العمارة يتطوع لخدمة " علية " .. ويخرج والطائرات تلقى القنابل ليأتى للطفل باللبن ..
وعندما تنتهى الغارة .. كانت تصعد حاملة الطفل إلى شقتها ..
ولما كانت الغارات متصلة .. فقد تعبت من الطلوع والنزول .. وقررت أن تبقى فى الدور العلوى .. مهما كانت الأحوال .. وكانت تخاف على الطفل .. فتضع يديها فى أذنيه حتى لا تسمعه صوت القنابل ..
ولما اشتدت الغارات ورأت نوافذ بيتها تصفر والسقف يهتز .. تصورت أن كل شىء سيسقط على رأسها .. فأخذت تخرج بالطفل إلى الممر الخارجى وتظل تروح وتجىء .. فى الظلام .. وحولها أبواب الشقق المغلقة الصامتة ..
ورأت أنها إذا ماتت ومعها الطفل فى هذا المكان فلن يحس بهما أحد .. وجعلها هذا الخاطر تغير مكانها .. فأخذت تنزل إلى الدور الأرضى كلما سمعت صفارة الإنذار وكان يسكن بجوار السلم مباشرة شاب مصرى يعمل فى أحد المحال التجارية وكان أعزب ويقيم وحده فى أصغر الشقق فى العمارة .. ومنذ بداية الحرب والغارات .. وهو يرى " علية " واقفة مع البواب فى المدخل .. أو ملتصقة بالجدار .. قريبا من بابه وعلى ذراعها الطفل ..
وكان ينظر إليها فى ألم ..
ولما طال وقوفها أخرج لها الشاب كرسيا من شقته .. فجلست وهى تشكره بصوت خافت ..
ولما امتدت الغارات إلى منتصف الليل .. ذات مرة .. عرض عليها الشاب أن تستريح فى شقته .. حتى لا يتعرض الغلام للبرد ..
ولخوفها على الطفل .. دخلت واستراحت فى الداخل ..
وفى كل ليلة كانت تدخل شقة هذا الشاب .. وتريح طفلها ..
وكانت تلاحظ أن الشاب .. بعد أن يدخلها ويدعها فى أمان .. ويقدم للرضيع الطعام .. والغطاء .. ينسحب إلى الخارج ..
وتكرر منه هذا العمل فتألمت وشعرت بالخجل .. وقالت له .. ذات ليلة وهو يدخلها :
ـ إذا خرجت .. لن أبقى فى بيتك .. تحمينا وتموت أنت .. لا ..
ولكنه كان يرفض .. ويحاورها ويداورها .. حتى تجلس فيخرج ويغلق عليها الباب .. ويقف هو فى الخارج ..
وكانت تدرك .. أن البواب .. وهذا الشاب الذى تستريح فى شقته .. ومن بقى من الرجال فى العمارة .. يقفون هناك فى المدخل .. ليحموها هى ..
وشعرت بارتياح كبير .. وحتى الرجال الذين كانوا يغازلونها قبل الحرب .. بنظراتهم .. أصبحوا ينظرون إليها الآن نظرة أخرى .. ويعاملونها كأخت .. كانت تقابلهم فى الظلام .. صاعدة السلم و نازلة منه .. وكان بعضهم يمسك بيدها .. ويعينها على أن تهبط .. حتى لا تسقط بالغلام ..
كان الجميع يعاملونها بإنسانية وشهامة الرجل مع امرأة وحيدة ..
وذات ليلة .. سقطت قنبلة فى الشارع المجاور .. فذعر السكان .. ووضعت " علية " غلامها على صدرها .. ومصاغها وحليها فى حقيبة صغيرة وأمسكت بها ..
وقبل أن تبعد كثيرا وجدت الشاب .. فى أثرها يعدو .. وحمل الطفل عنها واحتموا فى مدخل بيت كبير مهجور .. بعيدا عن منطقة الضرب ..
ونظرت إليه وهو واقف بجوارها لأول مرة .. ورأته قويا وادعا .. كانت عيناه تنطق بالوداعة والطيبة وجسمه قويا مفتولا .. وسألته :
ـ لماذا تعرض نفسك للموت من أجلى ..؟
ـ لم أمت بعد ..! وأفعل هذا وأكثر منه من أجل الغلام ..
ـ أنت غير متزوج .. وليس عندك أطفال .. فمن أين جئت بعاطفة
الأبوة ..؟!
ـ لا أعرف ..!! وانى أحس بقلبى يتمزق فى وقت الغارة .. وأنا أرى الأطفال .. وأود لو أصبح درعا كبيرا يطوقهم ويحميهم ..
ـ هل تشعر بهذا الآن لأن والد " سمير " يحارب فى الجبهة ..
ـ اننى لا أعرف زوجك يا سيدتى ..
ـ هذا صحيح .. ولقد نسيت هذا كله ..!! وأرجو المعذرة ..
ونظرت إليه .. وهو يحمل ابنها فى حنان صادق .. وكانت تود أن تسأله عن اسمه ..
ومذ وقف بجوارها وهى تشعر بالاطمئنان وذهب عنها الخوف الذى كانت تحس به وهى تجرى فى الليل وحدها .. وتذكرت أن الحقيبة الصغيرة سقطت منها وهى تجرى مذعورة وفيها كل ثروتها وكل حليها .. ولكنها خشيت إن حدثته عنها أن يذهب ليبحث عنها فتصيبه طائرات الأعداء .. ولذلك كتمت عنه الخبر كلية .. وأحست فى تلك اللحظة بضآلة ما ضاع .. بجانب ابنها سمير ..
وسألها الشاب .. بعد أن انتهت الغارة :
ـ إلى أين كنت ذاهبة ..؟
ـ لا أعرف .. أمشى وأمشى .. ويكفى أن سمير على صدرى ..
ـ إذن .. نروح ..
ومشت بجانبه .. إلى البيت ..
وقبل أن تبلغ باب شقتها وجدت خادما فى العمارة يصعد السلالم خلفها وكان يحمل الحقيبة التى سقطت منها ..
ولما أعطته بعض القروش لأمانته رفض .. وعجبت أن القنابل التى يلقيها الأعداء من طائراتهم غاصت فى الأرض .. ونبشتها وأظهرت الجواهر الخفية .. أظهرت الماس الكامن فى أعماقها .. أظهرت الجواهر النقية الكامنة فى النفوس والتى كان يغطيها التراب ..
وكان الشاب وهو خارج فى الصباح إلى عمله .. يسألها عن حاجتها ويحمل إليها وهو عائد من الخارج كل ما تحتاجه .. وكان فى الليل .. يترك لها شقته ..
وكان البواب .. لا يعنى بأحد مثل ما يعنى بها .. وكذلك كل خادم .. وكل رجل بقى فى العمارة .. الكل يسألونها عما تطلب ..
وعرض عليها أحدهم أن ينقلها إلى الريف مع أسرته بعيدا عن الغارات .. ولكنها كانت ترفض ..
كانت تود أن يأتى زوجها .. ويجدها كما تركها فى بيتها .. ولكن جرت الحوادث بسرعة .. وانقطعت أخباره .. حتى قطعت كل أمل وحتى جف دمعها .. وكانت تنظر إلى الغلام .. وترى فيه وجه والده .. ترى فيه سلوتها الباقية ..
وذات صباح خرج خلبل البواب ليصلى كعادته قبل الشمس وأصابه الأعداء برصاصة .. فسقط .. ولما علم الشاب الساكن فى الدور الأرضى بمقتل البواب .. تألم .. وأمسك بالبندقية وأصبح لا يبرح المنطقة ..
وكان يرى الجنود المصريين يرابطون فى مواقعهم على رأس الشوارع .. والطائرات تغير وتلقى القنابل والرصاص يدوى .. أو يصفر ..
ولم يفكر فى شىء كما فكر فى " علية " وطفلها اللذين أصبحا فى حماه الآن .. فى حماه وحده ..
وحزنت " علية " لموت البواب ولكنها لم تفكر فى أن تترك العمارة كما تركها غيرها ..
وفى عصر يوم اشتد ضرب النار .. وبدأت معركة رهيبة .. وكانت " علية " ترى الشاب الساكن تحت يتحرك فى المنطقة كالنحلة .. ولا يخيفه الرصاص المتساقط فوقه عن الوصول إلى بغيته ..
كان يقف على النواصى .. ويقيم المتاريس .. ويحمل للجنود المحاربين الماء ..
ولما سكت مدفع أحد الجنود البواسل .. حل الشاب محله فى الحال .. وأخذ يطلق النار بقوة .. وأسقط طائرة إنجليزية ورأت علية طائرة أخرى تهوى وفى ذيلها النار ..
وحميت المعركة .. وتكاثرت الطائرات فوق رأسه .. فصمت بعد أن أطلق آخر رصاصة ..
وكانت نظرته الأخيرة متجهة إلى نافذة " علية " ..
وتخشب جسم " علية " لحظة ثم وجدت نفسها تندفع بسرعة نحو الباب الخارجى وعلى بسطة السلم وجدت زوجها صاعدا .. وعلى وجهه سحنة من خرج لتوه من المعركة ..
ودفنت رأسها فى صدره وأخذت تبكى وهى تضمه بقوة ..
وسألته :
ـ هل .. انتقمت لنا من هؤلاء الأندال ..؟
ـ أجل .. وسأنتقم ..
ودخل يقبل الصغير .. وكانت الساعة تدق الخامسة .. وكأنها تنشد نشيدا حماسيا ..





=====================================
نشرت فى صحيفة الشعب ـ العدد 171 ـ بتاريخ 23/11/1956وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
=====================================

دماء على الرمال


دماء على الرمال

قصة محمود البدوى


بعد الساعة العاشرة صباحا .. وفى اليوم الأخير من أكتوبر كنت أبحث فى مكتبة الفنون بحى قصر النيل عن لوحة نادرة للرسام جويا .. لألهب بها مشاعرى فى فترة المعركة ..
وكانت حرب السويس مشتعلة على أشدها وطائرات الأعداء تلقى علينا القنابل فى كل ساعة .. والجمهور يقابل هذه الغارات ببسالة عديمة النظير ..
كان يسير فى حياته العادية .. كما كان قبل الحرب دون رهبة لم يتغير شىء فيه ولم يتبدل ..
وكان يفلت منه الزمام فقط فى اللحظات المثيرة عندما تحترق طائرة وتهوى .. أو يسقط طيار بالمظلة .. عندئذ ترى الجموع تنطلق وتتجمع كالروافد من الشوارع الجانبية كلها لتصب فى مكان الحادث هادرة صاخبة كالبحر الهائج الذى لا يرده شىء ..
وكانت هناك غارة وأنا فى الطريق إلى المكتبة فلما بلغتها كان الخواجه البير صاحب المكتبة يتحدث عن طيار فرنسى سقط عند مصلحة التـليفونات وحـاصره الجمهور .. ليمنـع عنـه الاعتداء حتى يصل
البوليس ..
ونهض معى البير يرينى مكان اللوحات فى الداخل ثم رجع إلى مكانه وسمعته بعد دقائق يتحدث مع سيدة بالفرنسية ويقول لها بصوته الخالى من كل انفعال :
ـ آسف يا سيدتى .. فأنا لا أشترى شيئا الآن .. عندى الكتب مكدسة .. كما ترين ..
فتلفت فوجدت سيدة فى الخامسة والعشرين من عمرها متوسطة الطول .. واقفة أمامه بجانب المدخل وبيدها ربطة صغيرة من الكتب ..
وكانت تعطينى جانبا من قوامها فلم أستطع أن أتبين منها أكثر من شعرها .. وأذنها الصغيرة والصدار الذى يطوى صدرها .. وكان الجزء الباقى من جسمها يغطيه حاجز المكتبة ..
وظلت السيدة متحيرة نصف دقيقة .. ثم استدارت نصف دورة .. وخرجت من وراء البنك .. وفى هذه اللحظة بصرت بى ..
وكانت مفاجأة تامة لها فإنها لم تكن تتوقع وجود أحد اطلاقا فى داخل المكتبة .. وفى تلك اللحظة اكتسى وجهها بتعبير هزنى .. لم أر هذا التعبير على وجه أنثى من قبل .. كان التعبير يجمع معانى الضراعة والسخط .. ولعنة الأيام ثم شيئا يتجمع ولا تتحرك به الشفتان .. وكانت العينان تلمعان دائما برغم الأسى الذى على الشفة ..
وتحولت إلى صاحب المكتبة مرة أخرى وأخذت تحادثة لمدة دقيقتين ..
وكنت أعرف أن البير فيه مكر الثعالب .. وهو يراوغ السيدة .. ويرفض الشراء منها الآن ليجعلها تعود إليه مرة أخرى وتبيع بأى ثمن ..
ولم تكن الكتب أكثر من خمس روايات بالفرنسية من طبعات رخيصة .. ولا تساوى أكثر من خمسين قرشا .. ولكن ألبير الماكر لايدع أية فرصة تفلت من يديه ..
وكنت أود أن أتقدم إلى هذه السيدة .. وأبدى لها رغبتى فى شراء هذه الكتب ولكننى قدرت أنها لا تعرف بأننى سمعت ما دار بينها وبين صاحب المكتبة من حديث .. وكنت فى الوقت نفسه لا أود أن أحرجها .. مرة أخرى وأذلها .. وأشعرها بأنى أعرف أنها فى حاجة إلى مثل هذه القروش ..
وابتعدت عنها أكثر وأكثر .. حتى لا تشعر بالخجل إن عاودت الحديث مع البير .. ودخلت فى جوف المكتبة إلى نهاية الممر المظلم ..
وعادت الصفارات تزعق مرة أخرى وأنا أنظر فى صفوف الكتب التى أمامى وأفكر فى أن الذى اخترع آلات الدمار التى تلقى علينا الآن على شكل قنابل ومفرقعات .. هو عقل بشرى متفتح دون شك .. وكان غرضه الأول هو خير الإنسانية .. ولكن الشياطين هم الذين حولوا هذه الأشياء إلى آلات للدمار تسحق الإنسان نفسه .. الذى اخترعها وقتل الروح الطيبة من البشر فيا للعجب ويا لذل الإنسان عندما يسيطر الشياطين على الموقف ويصبح فى يدهم الزمام ..
والتقطت شيئا من على الرف .. رباعيات الخيام لفيتز جيرالد .. وكل شىء هادىء فى الميدان لماريا ريمارك .. وكأنما كنت أود أن أجمع بين أعلا مراحل الشعر والنثر فى آن .. وأمسكت بالكتابين مع اللوحات الأربع التى اخترتها ..
وخرجت من الممر المظلم مرة أخرى إلى الرجل السمين الجالس إلى المكتب فى استرخاء وخمول .. وراعنى أننى وجدت السيدة التى شاهدتها من قبل لاتزال هناك .. وكانت قد وضعت الكتب جانبا .. واعتمدت براحتها على حافة المكتب .. ووقفت أمام ذلك البدين المكروش .. تحادثه .. ولعلها تتضرع إليه .. ولما اقتربت منهما سمعته يقول :
ـ يمكن أن نسأل الأستاذ ..
فقلت له :
ـ عن أى شىء ..؟
فقال بهدوء :
السيدة تسأل .. إذا كان يجب على كل شخص يقيم فى بنسيون أن يتقدم إلى مركز البوليس الواقع فى دائرته مسكنه ..؟
ـ أظن هذا مطلوبا إذا كان الشخص من رعايا الأعداء ..
ـ ومتى يتقدم ..؟
ـ فى مدة 24 ساعة ..
ولم أكن على يقين من هذا الكلام ولكننى قرأت شيئا أشبه بهذا فى إحدى الصحف ..
وكانت السيدة قد استدارت إلىَّ وواجهتنى .. فرأيتها صغيرة دقيقة التقاطيع جذابة الملامح بوجه أبيض ناصع البياض وعينين دعجاوين .. وكانت الرموش غزيرة والحواجب أشد سوادا من الشعر ..
وكان خدها يرف ويتوهج مع الضوء الساقط من شراعة الباب ..
وكانت عيناها من الرقة والنعومة والصفاء .. بحيث لم تصمدا أمام نظراتى فأطرقت برأسها أكثر من مرة وهى تحادثنى .. وكان يهمنى أن أعرف جنسيتها وما يشغل بالها خصوصا وأن السلطات لم تتخذ أى اجراء إلا مع الخطرين على الأمن ..
فحدثتنى بأنها تقيم مع عائلة أجنبية .. وقد طلبت منها هذه العائلة أن تتقدم لمركز البوليس بأوراقها .. وإلا فلن يقبلوها عندهم ..
فدخل فى حسبانى أنها يهودية وانتابنى شعور من الكراهية فى هذه اللحظة .. لم أستطع دفعه ولا مقاومته برغم جمال هذه السيدة الصارخ .. فأقصرت معها فى الحديث .. ودفعت ثمن الأشياء التى أخذتها لصاحب المكتبة .. وخرجت إلى الطريق .. وبعد خطوات وجدت هذه السيدة ورائى .. وكانت الطائرات المغيرة قد رجعت واشتد ضرب المدافع المضادة وخشيت أن تسقط علىَّ بعض القذائف .. فاحتميت تحت باكيه فى الشارع .. وجاءت السيدة وبيدها حزمة من الكتب فوقفت بجوارى .. فأخذتنى الشفقة عليها مرة أخرى ..
وسألتها بالفرنسية :
ـ هل أنت يهودية ..؟
ـ أبدا .. ان كل الناس يتصورون هذا .. أية مصيبة .. وأى عذاب ..
وأرتنى صورتها على جواز السفر .. وبجانبها شخص آخر ولا شك أنه زوجها ..
وكانت مصرية صميمة واسمها جيهان .. وسألتنى بعد أن رأتنى أطمئن :
ـ ولماذا تصورت أننى يهودية .. هل شكلى يدل على ذلك ..؟
ـ إلى حد كبير .. وفوق هذا فأنت مذعورة كاليهود تماما ..!
ـ إن هذا من سوء حظى وأنا خائفة لأنى وحيدة فى مدينة كبيرة ..
وسألتها :
ـ ولماذا تقيمين مع عائلة أجنبية .. ما دمت مصرية ..؟
ـ اننى من الإسكندرية .. وجئت إلى القاهرة منذ اسبوع .. وكانت صاحبة لى هناك قد دلتنى على هذا ( البنسيون ) .. وطبعا اخترته لأنى لا أعرف القاهرة وهذه أول مرة أضع قدمى فيها ..
ـ وقت غير مناسب للفسحة ..
ـ اننى لم آت للفسحة .. جئت أبحث عن عمل ..
ـ ووفقت ..؟
ـ أبدا ..
ـ والإنسان الذى رأيت صورته الآن فى الجواز ..؟
ـ لقد تركته .. انه متوحش ..
قالت هذا بمرارة وغضب .. واكتسى وجهها باللون الأخاذ الذى جذبنى إليها وهز مشاعرى .. اتخذ التعبير الأول الذى أسرنى .. التعبير الذى لم أره على وجه أنثى من قبل ..
وسألتها :
ـ بكم كنت تودين بيع هذه الكتب ..؟
ـ بثلاثين قرشا .. بأربعين .. أى شىء .. اننى قرأتها ولم أعد فى حاجة إليها ..
ـ سأدفع لك فيها ثلاثة جنيهات .. بشرط أن آخذ معها شيئا آخر ..
فاحمر وجهها جدا وقالت وهى تحملق فى وجهى بذعر :
ـ ليس معى شىء سواها ..
ـ أننى سآخذ شيئا بسيطا .. صورة لك ..
ـ صورة فوتوغرافية ..؟ ليس عندى صور ..
ـ صورة من رسم يدى ..
ـ حضرتك رسام ..؟
ـ أجل ..
وسهمت .. ونظرت إلى الشارع وإلى الناس .. وإلى حركة المرور والمواصلات بعد الغارة ..
وسألتنى :
ـ وأين ترسم ..؟
ـ فى مكتبى ..
ـ بعيد ..؟
ـ أبدا .. أنه على مسيرة نصف ساعة ..
ـ أرجو أن تذهب معى أولا إلى مركز البوليس .. لأننى لا أعرف أحدا .. وخائفة .. ان الذهاب إلى القسم شىء مروع ..
ـ أنت مصرية .. ولا داعى لأن تذهبى إلى القسم ولا تفكرى فى شىء من هذا ولا تخافى أبدا ..
ـ لقد كنت طائشة .. عندما أسرعت وركبت القطار وتركت بيتى .. كنت فى حالة غضب .. كنت مجنونة فى الواقع ..
ـ سأرجعك إلى بيتك .. ولا تشغلى بالك بشىء الآن .. ولا تتأسفى .. سأصلحك مع زوجك ..
ـ وهل تعرفه ..؟
ـ وهل من الضرورى أن أعرفه ..؟
ـ أبدا .. اننى مخطئة ..
واكتسى وجهها بالتعبير الذى أسرنى مرة أخرى واخترقنا حى معروف إلى شارع رمسيس .. وكانت تسير بجوارى مستسلمة ..
وعندما مر بجوارنا الأتوبيس الذاهب إلى عين شمس أركبتها معى .. فركبت وهى صامتة .. كان الجوع والوحدة ووجودها فى مدينة كبيرة لا تعرف فيها أحدا .. كل هذه الأشياء قد حطمتها تماما ..
وفى السيارة لم نتحدث إلا قليلا .. كان حديثها بالعربية فيه لكنة الأجانب .. وخشيت إن تحدثنا بالفرنسية أن يتصور الناس أنها فرنسية فى جو كان مشحونا بالكراهية للفرنسيين .. فجلسنا صامتين وكنا نستمع إلى أحاديث الناس عن الحرب دون أن نعلق عليها .. وكان فى السيارة راديو .. يذيع الأخبار فى كل لحظة ..
وكان الركاب يتحدثون عن طائرة سقطت فى الصباح بجوار كنيسة سانت فاطيما بمصر الجديدة .. وكانت الجموع تود أن تفتك بالطيار الذى هبط بالمظلة قريبا من مكان الطائرة التى احترقت ولكنها ضبطت أعصابها وسلمته حيا لرجال الشرطة ..
كما تحدث الركاب عما قليل عن طائرة سقطت قرب المرج وأخرى فى امبابة .. وطيار سقط .. قريبا من سوق التوفيقية ..
وتحدثوا عن أهل بور سعيد ومقاومتهم الباسلة للعدوان ..
وكان كل راكب يتحدث عن الحرب كأنه اشترك فيها فعلا أو كأن الميدان قد انتقل إلى الشارع الذى يسكن فيه ..
وهبطنا من السيارة قرب البيت ودفعت الباب وأدخلت السيدة جيهان أمامى .. وأغلقت وراءها باب الحديقة الصغيرة ثم دلفنا مسرعين إلى الداخل .. وأغلقت الباب ورائى بالمفتاح ..
ولاحظت السيدة جيهان أن البيت ليس فيه غيرى ..
والواقع أنه كان هناك بستانى يمر على الحديقة من حين لآخر .. وفكرت أن أستغنى عن خدماته فى فترة وجود جيهان حتى لا يراها .. ويتحدث عنها للجيران ..
وكانت هناك خادمة عجوز تأتى لتنظيف البيت فى كل صباح .. ثم تذهب ..
وكنت أتغذى فى مطعم بالقاهرة وأتعشى وأفطر فى البيت .. وانجز الأعمال الفنية التى تتطلب من الجهد الكبير فى الليل .. وأحيانا أسهر إلى الصباح ..
وكانت بهية الخادمة العجوز .. قد رأت عندى من قبل فتيات فى المرسم .. ولكننى عزمت على أن أقول لها عن جيهان أنها قريبتى .. قدمت من بور سعيد لتكون فى رعايتى بعد أن مات والدها فى الحرب ..
والواقع أن جيهان شعرت بالراحة عندما لم تجد أحدا فى البيت ..
وتغدينا من الطعام الذى كنت أضعه فى الثلاجة ..
وتركتها تستريح فى غرفة بجانب المرسم .. ونامت إلى العصر نوما عميقا .. وبدا لى أنها كانت متعبة جدا .. فما وضعت جسمها على الفراش حتى استغرقت فى النوم ..
وكنت قد وضعت لها قميصا بجانب الفراش ولكنها لم تلبسه وبقيت فى ملابسها ولم تخلع سوى الحذاء ..
وبعد أن استراحت .. كانت الشمس لاتزال طالعة .. فأبديت لها رغبتى فى أن نبدأ الرسم من الآن .. وأجلستها فى المرسم بكامل ملابسها وأخذت أرسمها حتى خيم الظلام .. وكانت ساكنة وكنت أنظر إلى وجهها الفاتن باعجاب لا حد له .. وكانت تعابير وجهها ناطقة ..
وكنت أدرك أننى عثرت على كنز ساقتنى إليه المصادفات وحدها .. وكنت أرسم وجهها بانفعال .. وضعت فيه روحى .. وكانت الفرشاة مطواعة .. وكنت بعد كل نصف ساعة أجعلها تستريح قليلا خمس دقائق أو أكثر من ذلك .. ثم أعود للعمل .. وكانت عيناها وشفتاها تلتمعان وخدها يتوهج .. تحت ضوء المصباح .. وكان يمكن أن تستمر هكذا إلى الصباح فى جلسة واحدة وأكون قد أكملت الصورة .. ولكن منعنا من الاستمرار فى العمل .. صفارة الانذار .. فأطفأت النور ..
وجلست معها فى الظلام .. نتحدث .. ولم أتحرك ولم أقترب منها .. كنت أضع كل عواطف قلبى وحسى فى طرف فرشاتى .. ولا أحب أن أطفىء هذه الشعلة المتأججة فى نفسى بأية حركة وكان المجهول الذى فيها يقربنى إليها أكثر وأكثر فلم أكن أعرف الحقيقة تماما .. وكان يحيرنى أنها لاتستطيع أن تتحدث باللهجة المصرية الدارجة .. وكل حديثها معى بالفرنسية .. لأنها اعتادت أن تتحدث بها .. وتعلمت فى مدارس أجنبية داخلية ..
وكان الظلام حولنا ثقيلا .. والمدافع تدوى بشدة .. وتحركنا إلى النافذة وجيهان بجانبى .. وكان رجال المقاومة الشعبية ببنادقهم وخوذاتهم يروحون ويغدون تحت البيت والمتاريس قائمة .. والخنادق الصغيرة محفورة فى الشارع وأكياس الرمل على النواصى وتحت الشجر .. وكمنت الدبابات الكبيرة والمدافع السريعة الطلقات وكمن رجال القناصة الذين سيتصيدون جنود المظلات ..
وكان هناك سكون أرهبنى ومنعنى حتى من أن أشعل لنفسى سيجارة وظللنا فى هذا الصمت الأخرس لمدة ساعة كاملة .. والأنوار الكاشفة تلحس السماء .. وتضىء أعالى البيوت ..
وكانت قوافل السيارات والدبابات تتحرك هناك قريبا منا فى الشارع الرئيسى متجهة إلى ميدان المعركة ..
وكنت أعجب .. لانقلاب الحال فى الليل .. فإن كل شىء كان ينقلب فى الضاحية ويوحى بأننا فى قلب الميدان ..
وسألتنى جيهان :
ـ ان الرجال كلهم يعملون للحرب ويستعدون للمعركة .. فما الذى تعمله أنت ..؟
ـ اننى أرسم اللوحات لأثير المشاعر ضد الأعداء وأبين فظاعتهم ووحشيتهم .. وسترين لوحة كبيرة ستوضع فى ميدان التحرير من عملى ..
وابتسمت ..
واشتدت الغارة .. واقتربت منا الطلقات فأغلقنا المصراع الخشبى .. وكانت جيهان تخشى أن تنام فى داخل الغرفة وحدها ..
فحركت الكنبة ونمت عليها بجوار الباب كأنى حارس لها ..
***
ولم تكن تتصور أبدا أن يكون هذا الجمال على قيد خطوة منى ولا أقترب منه .. وأن آويها وأطعمها فى بيتى ولا آخذ منها الثمن .. ولذلك نظرت إلىَّ فى الصباح بامتنان ورضى .. واطمأنت تماما .. ولما جاءت الخادمة بهية حذرت جيهان من الاسترسال معها فى الحديث بتلك اللهجة التى فيها لكنة الأجانب .. لأن الخادمة بطبعها فضولية .. كما حذرتها من الظهور فى الشرفة والحديث مع الجيران .. لأن شكلها وحديثها يوحيان بأنها أجنبية وأننى لا أحب أن أظهر أمام الجيران بأنى آوى أجنبية .. فى بيتى فى هذه الظروف الدقيقة ..
وخرجت لأتسوق بعض الأشياء .. ومر اليوم كله بسلام ..
وفى ضحى اليوم التالى علمت من الخادمة بهية أن جميع الجيران يقولون عنى أن فى بيتى فتاة يهودية ..
وتملكنى الغيظ واضطربت جدا .. ولكننى كتمت عواطفى وظهرت أمام جيهان كأنى ماسمعت شيئا .. ورأيت الناس وهم يعبرون فى الشارع يتطلعون إلينا .. ويلتصقون بالسور لينظروا إلى الداخل بفضول أزعجها ..
ورأيت أن ننصرف إلى الداخل بعيدا عن الأنظار .. فأدخلتها المرسم وأخذت أشغل نفسى بالعمل .. ولاحظت أنها ساهمة ومتغيرة وحدثتنى بما سمعته من الخادمة بهية .. فقلت لها أن بهية فضولية جدا .. وكثيرا ما تكذب وأنها ربما نسجت خيوط هذه القصة .. لغرض فى نفسها فقالت لى أنها شاهدت بعينيها أكثر من شخص يتطلع إليها .. وفى عينيه نظرة كراهية أرعبتها ..
وأخذت أبعد عن رأسها كل هذه الخواطر .. حتى أدركت أنها اقتنعت .. وتركتها بعد العمل تستريح ..
وفى الليل تعشينا ونمنا ..
***
واستيقظت على طرق الباب .. وكانت الساعة قد جاوزت نصف الليل .. ولما فتحت الباب وجدت شخصا أعرفه من الجيران .. وجاء يحدثنى بما سمعه من الناس عن وجود أجنبية فى بيتى وأن ذلك سيعرضنى للمخاطر .. فأفهمته أنه مخطىء فى ظنه وأن هذه الفتاة مصرية وقريبتى أيضا .. وانصرف الرجل .. ونظرت إلى جيهان فوجدتها متيقظة وسامعه لما دار من حديث ..
ولكن لما اقتربت منها تناومت .. وفى هدأة الفجر .. سمعت الباب الخارجى يفتح ويغلق فنهضت وأسرعت إلى فرشها فلم أجدها فيه فدفعت الباب الخارجى وأسرعت وراءها .. وسمعت وأنا أجرى صفارة الإنذار .. ودوى المدافع المضادة .. وشعرت .. بانقباض فى قلبى ..ولكننى أصبحت أعدو فى الشارع .. انطلقت بأقصى سرعتى ولمحت ثوبها من بعيد .. فجريت أكثر وأكثر لألحق بها وكانت المدافع تدوى .. وتهز كل شىء حولى ..
وسمعت انفجارا شديدا انفجارا زلزل الأرض .. ورأيت منزلا قريبا قد انقض وتراكمت انقاضه فى الشارع وجريت كالمجنون وعيناى تبحثان فى الظلام .. وفى ركن من الطريق رأيت جيهان ساقطة على الأرض وكانت قد أصيبت فى رأسها بقطعة حديد أو حجر من الذى طار من الانفجار .. ورفعتها إلى صدرى وطوقتها بشدة .. أننى لم المس هذا الجسم قط وهو حى وقدر لى أن أضمه ميتا ..
وانحنيت عليها وغمرتها بالقبلات .. وحملتها على ذراعى وأنا أنظر إلى الليل والظلام .. وكان كل ما حولى قد سكن فجأة .. سرت صامتا مسافة طويلة وأنا أحملها على صدرى ..
وكانت دماؤها الحارة تسقط على الرمال .. والسماء قد ذابت فى الشفق الأحمر ..
وكنت أرسم بقدمى على الرمال فى دائرة واسعة أعظم لوحة يمكن أن يرسمها فنان ..











=====================================
نشرت فى صحيفة المساء بالعدد 1205 بتاريخ 5/2/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " حارس البستان " سنة 1960
=====================================