الخميس، 5 مارس 2009

النور

النـور
قصة محمود البدوى

حدث فى ليلة من ليالى نوفمبر .. والحرب دائرة بيننا وبين الإنجليز فى القنال .. والغارات على القاهرة وضواحيها .. لا تنقطع لحظة .. أن قفلت عائدا إلى دارى بحلمية الزيتون .. وسط الظلام والقنابل .. وصعدت السلم مستعينا ببطارية صغيرة .. وكان البيت شاهقا من سبعة طوابق .. وكنت أسكن فى الطابق الأخير منه ..
ولما وقفت على الباب ووجهت نور البطارية إلى القفل وأخذت أدير المفتاح سمعت صوتا قريبا يقول :
ـ من فضلك .. تسمح .. بالبطارية دقيقة ..
وتلفت نحو مصدر الصوت فلم أر شيئا .. فقد كان الظلام شديدا .. وتقدمت محركا النور الذى فى يدى إلى الناحية التى سمعت منها الصوت .. فوجدت على باب الشقة رقم 21 سيدة نصفا .. تلبس السواد .. ولم أكن قد شاهدتها من قبل فى هذا الطابق .. ونظرت إلى وجهها لحظة ثم وجهت البطارية إلى بابها .. وأدارت المفتاح ودخلت ..
فأنرت لها المدخل حتى تتبين طريقها .. وبعد أن أصبحت فى البهو .. استدارت وخرجت من دائرة الضوء الخافت .. وسألتنى وهى تشكرنى على تعبى :
ـ حضرتك .. ساكن .. هنا ..؟
ـ فى الشقة رقم 19 ..
ـ لم أرك من قبل ..
ـ جئت فى أول هذا الشهر .. مع الغارات ..
فضحكت .. وهز ضحكها السكون المخيم .. وهنا سمعت من يقول فى الداخل :
ـ يا سعدية .. أنت جئت .. أوقدى النور ..
ـ الغارة لا تزال ..!!
وارتفع صوتها وهى ترد على المتكلم وبدت على فمها نصف ابتسامة .. وبقيت نظرتها ثابتة على وجهى ..
والواقع أننى لم أكن أقدر اطلاقا أن أحدا فى داخل بيتها .. ولذا فوجئت بالصوت وظهر على وجهى الارتباك ..
ونظرت إلى احمرار وجهى وقالت برقة .. وهى تدير المصراع :
ـ تصبح على خير ..
وأغلقت بابها .. وعدت إلى شقتى ..
***
وفى خلال اليومين التاليين .. رأيتها أكثر من مرة فى الردهة الخارجية وفى نافذة المنور ..
وشاهدتها مرة فى قطار المطرية وكانت جالسة فى الدرجة الثانية وفى فمها سيجارة وبدت لى فى ضوء العربة الخافت .. ومن خلال السواد الذى يلف جسمها .. كأرملة فقدت بعلها وهى عروس شابة دون أن تتمتع بأطايب الحياة .. فقد كانت بادية الشحوب .. وكأن يدا قاسية اعتصرت الدم الذى فى وجهها .. ولم تكن سنها تزيد على الأربعين ولكن شعرها كان قد ابيض كله وصبغ بالسواد الفاحم .. وبدا منطفىء البريق ..ولمحتنى وأنا جالس معها فى نفس العربة فحيتنى بابتسامة لطيفة ..
ولكن عندما هبطت من القطار .. وخرجت من باب المحطة .. تركتها تسير وحدها مع أنها كانت متسوقة أشياء كثيرة من القاهرة وتنوء بحملها ولما اقتربت من البيت .. ودخلت فى ظلام المدخل .. لمحتها تتلفت كأنها تبحث عنى وكنت أنا فى تلك اللحظة أبتاع علبة سجائر من بدال على الناصية ..
***
واشتد الضرب ذات مساء ودوت المدافع والقنابل حتى خيل إلينا أن جميع المنازل التى حولنا تندك .. وكانت عمارتنا تهتز جدرانها .. وتصفر نوافذها .. فهبط جميع السكان إلى " البدرون " .. حتى ضاق بهم على سعته .. وبحثت فى الضوء الكابى عن جارتى فلم أجدها ..
ولما انتهت الغارة وصعدت إلى فوق .. رأيتها من نافذة المطبخ تتحرك فى شقتها .. فأدركت أنها لا تنزل مهما اشتد الضرب ..
والواقع أن حالتها كانت أحسن بكثير من حالنا فيما يبدو لى .. فانها تشغل نفسها فى بيتها بأى شىء .. وتحرك يديها ورجليها .. أما نحن فكنا نجلس فى البدرون فى سكون وكأننا ننتظر حكم الإعدام .. نصمت صمت الموتى ساعة كاملة دون أن تتحرك لنا جارحة ثم نتحدث ثلاثة .. ثلاثة .. فى نفس واحد ..
وكنت أسمع الأحاديث المعادة والأخبار التى سمعتها بحذافيرها فى الصباح ..
وفى سبع حالات من تسع يظهر شخص عبقرى فيحدثك وأنت محشور وسط هذه الكتل البشرية عن خطر الغارات والقنابل المباشرة التى لاتبقى ولا تذر .. وخطر التدخين على الأخص والتطلع من باب المخبأ .. فان هؤلاء العبـاقرة لازمة لصـفارات الإنذار .. ويظهرون كمراقبى الرقابة المدنية بمجرد حدوث الغارة وكل هؤلاء من الذين انخلعت قلوبهم .. والذين تحطمت أعصابهم ودمرت فى تصور حالات الموت البشع بكل صوره الشنيعة .. فلماذا لا يحطم أعصاب الباقين .. ومنهم من يسرح به الخيال ويذهب بعيدا جدا فيترك حرب سنة 1939 بكل فظاعتها وهولها .. ويحدثك عن حرب 1914 .. وعن أستاذ فى جامعة هامبرج .. دمر الجامعة بأسرها لأنه اشتاق أن يدخن سيجارة فى اللحظة التى مرت فيها الطائرات البريطانية فى سماء المدينة ..
الواقع أن السيدة سعدية قد أراحت نفسها من سماع كل هذه الأحاديث المدمرة .. وكنت أحسدها على سكينتها وهدوء أعصابها ..
ولكن هذا الحسد لم يطل أمده .. فقد سمعت صرختها فى الليلة التالية وأنا ذاهب لأنام .. صرخة حادة مروعة حتى تصورت أن هناك من يذبحها .. وجريت إلى شقتها .. ووجدت باب المطبخ مفتوحا .. فنفذت إلى الصالة .. وهناك وجدتها ملقاة على الأرض ممزقة الثوب .. ورجل يضربها وهو يلهث ..
ولقد خجلت فى الواقع لأننى أدخل الشقة لأول مرة فأرى هذا المنظر ..
ورآنى الرجل .. كما رأتنى هى .. فكتمت أنفاسها ونحيبها .. وأمسكت بالرجل أبعده عنها وكان متهالكا .. فدفعته بسهولة إلى الخارج لأبتعد عن منظرها وهى ممزقة الثوب وقد بدا بياض جسمها فى أكثر من موضع .. ولأعطيها الفرصة لتجمع شتات نفسها ..
ومازلت أدفع الرجل وألح عليه حتى أخذته إلى شقتى .. وبعد أن شرب القهوة وأشعل سيجارة هدأت أعصابه .. وأخذ يحدثنى والدمع فى عينيه كيف أنه يضرب سعدية فى ساعة جنون ويثور عليها دون سبب معقول .. وعلمت أنه أخوها وليس زوجها كما قدرت .. وأنهما يعيشان معا متلازمين فى بيت واحد منذ أكثر من عشرين عاما .. وأنها لم تتزوج من أجله .. كما أنه لم يتزوج من أجلها كل منهما حامى للآخر ..
رفض أن يتزوج هو حتى تتزوج هى أولا .. ولما تقدم إليها بعض الرجال وطلب يدها .. كان هو قد أصبح شيخا أو هرما .. ولا خير يرجى منه .. فرفضت أن تتركه وحده .. وعاشت له ..
والواقع أن التضحية من الجانبين كانت قاسية .. وعلى حساب أعصابهما ..
وكان يحدثنى وهو يشعر بالخجل .. ويصف كيف يضربها وهو مخمور مع أنها ضحت بكل شىء من أجله .. تركت له كل شىء .. حتى حصة فى وقف .. ليسكر بها .. بعد أن فصل من عمله .. وأصبح عاجزا عن الكسب .. كان يقول لى هذا وهو يبكى ..
والواقع أن حالته كانت محزنة .. وآثار الإدمان بادية فى يده المرتعشة وأسنانه الصفراء .. وعينيه المتورمتين .. ولما علم أننى أقيم وحدى بعد أن أرسلت والدتى وأخوتى إلى الريف .. بسبب الغارات .. رجانى أن أزوره .. كلما فرغت من عملى ووجدت الفراغ .. لأنه مريض .. ولا يستطيع أن يترك الفراش وينزل إلى القهوة ليتسلى مع أصحابه ..
والواقع أننى أشفقت على مرسى أفندى وكنت أذهب إليه كثيرا .. وأراه مدثرا فى الفراش .. وبجانبه زجاجة الخمر .. والكاس .. وأعقاب السجائر .. وكان يسكر فى كل وقت ..
ولقد أدركت بعد الزيارة الثالثة أن الخمر حطمت أعصابه وحياته .. ولم يعد قادرا على أداء أى عمل على الاطلاق .. وكنت أساعده فأصرف له من البنوك الشيكات التى ترد باسمه .. من ريع للأوقاف .. وحصة فى منزلين فى المدينة ومن هذا الإيراد كان يعيش ويسكر ..
وكان فى أثناء الغارة يحدثنى عن وطنيته فى سنة 1919 .. وكيف أنه زحف مع الثوار وقطع شريط السكة الحديد .. وقاتل الإنجليز .. وكان أحسن من يضرب النار ..
وكانت زياراتى له فى أثناء الغارات وبعدها قد هدأت من أعصابه .. ولم أعد أسمعه يتشاجر مع سعدية .. أو يضربها .. وكنت أراها كلما ذهبت إلى بيتها فى نفس الثوب الأسود .. وكانت عيشتها متوسطة بسيطة .. وأقرب إلى عيشة الفقراء .. ويبدو لى أن الخمر كانت تستهلك معظم الإيراد ..
ورغم هذه البساطة والفقر .. وشدة العوز .. فإنها كانت تسر جدا وهى تقدم لى أى شىء تصنعه بيدها .. وكنت أرى السرور فى عينيها .. والدم يجرى فى وجنتيها .. وكنت إذا تخلفت يوما عن زيارتهما لكثرة مشاغلى .. كانت تنظر إلىَّ صامتة .. ويقول لى مرسى أفندى :
ـ لماذا لم تحضر أمس .. يا صبرى .. يا ابنى .. اننا فى حرب .. ساعدنا على أن نتحمل ويلاتها .. يمكن نموت ولا نجد من يدفنا ..
وكنت أعتذر له وأنا شاعر بالخجل .. والواقع أننى وجدت نفسى بين يوم وليلة مرتبطا بهذه الأسرة الصغيرة .. وملتصقا بها .. وقد ساعدتنى الوحدة .. وسفر أسرتى على ذلك .. وكانت سعدية تقابلنى بالترحاب والمودة .. وأشعر بأنها تسر للقائى .. وتنتفض فرحة دافئة .. كما ينتفض الزهر المندى إذا سقطت عليه أشعة الشمس الدافئة ..
ولم أكن أطيق الجلوس فى حجرة أخيها مرسى إذا بقى .. بجانب فراشه طويلا لأنه كان يغلق النوافذ ويدخن ويسعل .. فكنت أجلس فى الردهة ثم أتركه لينام .. وكان متشائما ويخاف من الحرب .. ولكننى كنت أحدثه بروح الشباب وقوته .. أحدثه بلسان مصر الحديثة التى لا يعرف عنها شيئا .. أحدثه بروح الشعب الذى لا يقهر ولا توجد فى الأرض قوة تسحقه ..
وكانت سعدية فى جانبى وتقول له وعيناها تلمعان :
ـ سننتصر .. وسترى النصر .. سترى .. فكان يصمت ولا ينبس .. ببنت شفة ..
***
وذات ليلة .. وكنت فى بيتهم .. وسمعنا صفارة الانذار .. وكانت سعدية جالسة على كرسى قريب منى .. وكان هو فى الفراش .. وكنت أحدثه عن الأخبار المطمئنة .. والعالم الذى معنا .. والمتطوعين للحرب معنا .. وكانت سعدية مسرورة مثلى .. وتركتها بعد ساعة .. ودخلت بيتى لأنام .. وبعد أن تمددت فى فراشى .. عادت صفارة الإنذار تمزق السكون .. ودوت المدافع المضادة .. وزلزلت الأرض .. واهتزت جدران البيت ومادت .. وسمعت صرخة فجريت .. إلى شقة سعدية .. ووجدتها فى الممر تجرى مفزوعة .. وارتمت على صدرى وهى ترتجف فى عنف .. ثم أدارت ذراعها اليمنى على ظهرى وظلت لاصقة به .. وبقينا على ذلك مدة ..
وتحرك هواء من نافذة المنور .. فأطفأ السراج " السهارى " الوحيد فى البيت .. وبعدها أحسست بشفتى سعدية تبحثان عن شفتى ..
وكانت القنابل فى الخارج والظلام والهول ..
***
وفى كل ليلة كانت تنقر على باب المطبخ فأخرج إليها فى الظلام وتتلاقى الشفاة بالقبل وتتشابك الأيدى وتتعانق ..
وحدث عصر يوم الثلاثاء .. وكنت راجعا إلى البيت كعادتى .. أن دوت صفارة الإنذار .. ونزلت من الأتوبيس والطائرات المغيرة تضرب المارة فى الشوارع وتحلق على ارتفاع منخفض ..
ولما بلغت البيت كانت الطائرات تسير فوق العمارة مباشرة .. وتنزل إلى الفضاء بين البيوت .. وسمعت رصاصا ينطلق بعنف من نوافذ بيتنا ويسدد ببراعة إلى الطائرات فتصورت أن العساكر صعدوا إلى السطح وإلى الشرفات ليتمكنوا من إصابة الطائرات ..
ولما دخلت من الباب حذرنى الناس من الصعود إلى فوق لأن الرصاص يتساقط كالمطر فوقفت معهم فى المدخل .. وهنا اصيبت طائرة واخذت تهوى وهى مشتعلة ورأى الناس الذى اصابها وكان فى الطابق السابع من بيتنا .. وسمعت اسم مرسى أفندى ولكننى لم أصدق .. وصفق الناس وهللوا له .. ولما صعدت إلى شقته وجدته واقفا يبتسم بجانب النافذة وبيده البندقية .. وقد رجع من الفرحة بالانتصار شابا ..
ولما بحثت عن الشىء الذى كان يأسره ويحطم حياته لم أجده ولم أجد حتى الكأس التى كان يشرب فيها .. فأدركت سر صحوة الرجل وانتفاضته ..
ولما نقرت سعدية على بابى فى الليل .. لم أفتح لها .. شعرت أنه من العار أن أخون رجلا وقف على قدميه فى الصف .. ليعود النور إلى المدينة الكبيرة ..








ـــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت فى صحيفة الشعب بالعدد 191 بتاريخ 13/12/1956
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق