الأربعاء، 4 مارس 2009

الرسالة

الرســـالة
قصة محمود البدوى

فى ليلة من ليالى أكتوبر استدعى الملازم " كمال " الضابط فى الجيش من بيته فى ضاحية مصر الجديدة .

وبعد أيام قليلة اشتعلت نيران الحرب بيننـا وبين اسرائيـل ، فعرفت زوجته لماذا استدعى زوجها فى الليل .

وفى غمرة الحرب والعبور والانتصار ، نسيت سهير نفسها ، ونسيت زوجها .. وأصبح الفرد لا وجود له فى نظرها بعد أن تحرك المجموع .

نسيت فى هزة الانتصار زوجها كضابط .. ورأته فى رمال سيناء ، قدمين صغيرتين تتحركان وسط الوف الأقدام القوية نحو هدف عظيم .

وسط دخان المعركة ودوى القنابل والصواريخ وأزيز الرصاص .. أصبح زوجها بكل صفاته الخلقية وشجاعته .. ترسا صغيرا فى آلة كبيرة تتحرك فى عنف وضراوة .. فلم يعد له صوت مع صوت الآلة وضجيجها .. وإن كان له وجود حتمى .

وكانت تسكن فى شقة صغيرة من عمارة كبيرة بتلك الضاحية ، وفى نهاية خطوط " المترو " .. حيث السكون المطلق ورمال الصحراء .. التى تذكرها دوما برمال سيناء ، التى يحارب فيها زوجها .. وتقيم معها " شغالة " فوق العشرين تؤنسها فى وحدتها ، وتعاونها فى عمل البيت .. وان كانت سهير فى الواقع تقوم بعمـل البيت كله حسب مـا تعودت فى بيت أبيها قبـل أن تتزوج .

ولهذا اعتادت أن تخرج فى الصباح ومعها الشغالة .. وتركب " المترو " محطة ومحطتين .. لتذهب إلى السوق بنفسها ، وتشترى ما يلزم للطعام اليومى .. ولم تنقص الكمية إلا قليلا .. لأنها كانت تتوقع عودة زوجها فى كل ساعة .

ولم تكن وهى خارج البيت فى النهار ترى الاحساس بالحرب فى وجوه الناس ، وكان ذلك يغيظها أولا ولكن بعد التفكير أدركت السبب .. فالحرب بعيدة عنهم .. ومن أبرز صفات الناس فى القاهرة الهدوء ومزاولة عملهم اليومى بصورة عادية ، فهم يملكون زمام أعصابهم .. وتظهر شجاعتهم بأروع صورها فى ساعة الاختبار .

أما فى الليل فكانت سهير تحس بالحرب كأنها قريبة جدا .. من الاظلام التام لمصابيح الشوارع .. وقيود الاضاءة فى البيوت .

وكان الظلام يطبق برواقه على هذه المنطقة الصحراوية القليلة السكان بعد الغروب مباشرة .. ويخيم السكون التام والوحشة الرهيبة .

ولذلك ندر أن تخرج " سهير " فى الليل أو تنزل إلى الشارع .. وقد أوجد الظلام الفة قوية بين سكان العمارة .. لم تظهر بمثل هذه الصورة من قبل قط .

وتطوعت السيدات فى الهلال الأحمر وفى الجمعيات النسـائية .. ليعملن فى المستشفيات ، ويقمن بإرسال الهدايا والرسائل إلى الجنود فى الجبهة . وكانت سهير وهى فى بيتها تشاركهن هذا العمل بفرح ونشاط .

وأحست بان كل من حولها قد تحول بمشاعره إلى مكان هناك فى سيناء .. وفى هذا المكان تتجمـع كل الرغبـات والجهود وتتبلور .

وفى مساء يوم توقف القتال .. وأخذ بعض المقاتلين يعودون من الجبهة فى أجازة قصيرة .

وكانت " سهير " تتوقع عودة زوجها كما عاد هؤلاء .. فلما لم يحدث هذا .. بدأت تقلق وتنتابها الهواجس .

وكانت تقرأ السؤال عنه فى عيون جيرانها وصديقاتها .. دون أن يسألوها بألسنتهم .. شفقة بها وعطفا عليها .

وعندما تقرأ خواطرهم وما فى أذهانهم من أفكار .. يشحب لونها .. وتتندى عيناها بالدموع .

ثم بلغ القلق مداه عندما أخذ أهلها يسألون عنه صراحة فى التليفون وفى زيارتهم لها .. وفى كل يوم يكون السؤال الذى يمزق أعصابها .. فاضطرت بعد التفكير أن تكذب وتقول لهم بأنها تلقت منه رسالة حدثها فيها عن عمله البطولى فى الحرب .. وكيف كانت فرقته أول فرقة فى الجيش عبرت القناة ورفعت العلم .. وسرى الخبر فى الحى الصغير الذى تعيش فيه . . وأحست بأن الناس ينظرون اليها فى إكبار .. وكل واحد منهم يتمنى أن تكلفه بخدمة .. كانت السعادة تغمرهم إذا ساعدوها فى أبسط الأشياء .

وكانت فيما مضى من الأيام تسخر من الناس البسطاء الذين تسمعهم فى الإذاعة يبعثون بسلامهم إلى أقربائهم البعيدين عنهم .

فأصبحت الآن تتوق لأن تفعل مثلهم .. تتلهف الآن لأن تبعث السلام والتحية إلى زوجها .. البعيد عنها .. وتعطى روحها لمن يسمعها صوته فى الراديو .. صوته من بعيد وهو فى قلب سيناء .

أما من يحمل اليها رسالة منه فإنها تعطيه كل ما عندها .. كانت الرسالة تستغرق كيانها وبؤرة شعورها وأصبحت تحلم بها .

وكانت تجلس فى الصالة مدة طويلة وحدها .. وتدع الشغالة تنام .. لأن الصالة قريبة من الباب الخارجى الذى تجىء منه الرسالة .. وإذا قرع الجرس .. جرت متلهفة إلى الباب .. فإذا وجدته صبى المكوجى أو بائع اللبن .. تخشبت على الباب وأصيبت بخيبة أمل .. وقد تسب الطارق .
ولكنها تنتظر ..

أصبح التفكير فى شىء واحد .. الرسالة .. التى يحملها رسول .. أو تجدها تحت عقب الباب .. هى شاغلها الوحيد فى الحياة .

كانت تفتح الراديو .. وتسمع الأخبار .. والأناشيد الوطنية والموسيقى وكانت تقرأ ما تحب من الكتب .

وكان بعض من جاراتها يزرنها فى النهار والليل كلما وجدن الفراغ .. ولكنها كانت تفضل أن تقضى وقتها بمفردها .. وكانت هذه العزلة هى أحب الأشياء إلى نفسها ، لأنها تجعلها تفكر فيه وحده ، وتحصر نفسها فى عمله هناك .. وتتصوره وهو فى الخندق .. أو فى العراء .. مقاتلا أو مستريحا .. يفكر فيها .. كما تفكر فيه ..

انقضى على زواجهما ثلاث سنوات فقط ولكنها فى عمر ما توثق بينهمـا من روابط اللحم والدم .. أكثر من ثلاثين سنة .

وكانت تتوق لأن تنجب منه .. ما دامت بعد أن تزوجت قد رضيت بأن تترك الجامعة وتتفرغ لعمل البيت ، بيد أن الولد لم يأت بعد .. وقد يأتى غدا .. ولكنها كانت تتوق إلى وجوده فى أحشائها فى هذه اللحظة لتشعر وهو بعيد عنها بأن قطعة منه فى أعماقها .. تتحرك وتنمو .. وتنتظره كما تنتظر هى ..

وكان يثيرها ، ويهز مشاعرها ، ويلهب نار الشوق إلى زوجها .. ما تراه فى الشارع من الجنود العائدين من الميدان فى أجازات قصيرة .

فإذا رجعت إلى البيت ، جلست صامتة غارقة فى أفكارها .. وكلما مرت الأيام ازداد قلقها العصبى واشتد .

وكانت تمر عليها ساعات تقف فيها وراء باب الشقة وهى ترتجف حابسة صوت أنفاسها .. منتظرة الرسالة وهى تسقط من تحت الباب .

وأصبح ما تعانيه من توتر فى أعصـابها .. أشبه بالمرض .

ذات ليلة من الليالى الأخيرة من رمضان .. نامت دون سحور .. لأنها كانت تشعر بتعب شديد .

ورأت زوجها فى الحلم يخوض معركة ضارية .. وكان فى مقدمة الصفوف مع المشاة .. تقدموا واخترقوا طوابير العدو .. مهللين منتصرين .. وانقلب الجو كله إلى نيران تتأجج ودخان وقصف .

وفى غمار المعركة .. أصيب جندى مصرى .. وأحس به زوجها .. فرجع إليه يحمله وحده .. والرصاص حوله يتساقط .. حمله ومشى به حتى وضعه فى عربة الميدان الطبية .. وفى أثنـاء هـذه الحركة أصيب زوجها برصاصة وسقط .

واستيقظت من نومها مذعورة ..

كانت تعرف طباع زوجها ، وهو يفعل مثل هذا وأكثر منه .. ولذلك اشتد بها القلق .. وزاد الحلم بكل ما فيه من بشاعة من أحزانها وتعاستها .. وبكت .. وتعجبت كيف تطاوع نفسها وتبكى من حلم .

ولماذا تمزقت أعصابها هكذا .

ونظرت من النافذة فوجدت الشمس ساطعة .. فأدركت أنها تأخرت فى النوم إلى الضحى .. ونامت كثيرا مع أن مدة الحلم لم تستغرق أكثر من خمس دقائق .. وعكس الحلم سوء المزاج على نفسها .. وشهيتها للطعام حتى فى أيام العيد .

وفى اليوم الثالث للعيد .. جاء والدها من " اتليدم " فى قطار الظهر .. سمعت صوته بعد أن فتحت له " الشغالة " الباب فأصلحت من شأنها وجرت إليه فقبلت يده ، وجلست بجانبه تسأله عن والدتها وأخواتها فى البلد .. ولاحظ ما على وجهها من شحوب ، فعرف سببه ولم يحدثها عن شىء يثير فيها القلق .. لم يسألها عن زوجها .. كما لم يحدثها عن ابنه " مختار " وهو أخوها الذى يقاتل مع زوجها فى الجبهة .. لم يحدثها عنهما وإن كانت على يقين من أنه جاء إلى القـاهرة ليتسمع أخبارهما ..

ولكنه رجل ويملك زمام أعصابه .. ويستقبل الحرب وكل ما يجرى فيها كأمر عادى حتى وإن كان فيها أعز أبنائه .. أنها تعرف صفات والدها وشجاعته كرجل فى كل الأحوال والظروف .

ولو استشهد ابنه " مختار " سيقول كما قالت الخنساء من قبل " الحمد لله الذى شرفنى بقتله " .

كانت تعرف طباع والدها .. وقد جعلها وجوده فى البيت تفكر فى أخيها " مختار " الذى لم تفكر فيه كما فكرت فى زوجها " كمال " ولم تشتق إليه كما اشتاقت إلى زوجها .. وخجلت من نفسها .

كما خجلت من كل الأشيـاء التى جـاء بها والدهـا من البلد .

وقالت برقة :

ـ ما هذا كله .. يا والدى ..؟ كل مرة تتعب نفسك ..؟ انها زوادة سنة ..

ـ يا بنتى سيأتى " كمال " بعد أيام قليلة .. فأكليه من هذه الديوك .. فى الطقات الثلاث .. !

وضحكت من كلام والدها .. واستراحت لاستبشاره ومرحه .. وتغدى معها .. وصلى العصر .. ثم خرج إلى المدينة لبعض شأنه ورجع فى الليل فتعشى ونام .. وفى الصباح سافر فى أول قطار .

وأحست " سهير " بعد أن غادر والدها البيت .. بهزة الفراق .. ولكن وجوده كان قد أعاد السكينة إلى نفسها ، وهدوءه واستبشاره عكسا عليها الهدوء والاستبشار اللذين ترجوهما لروحها القلقة .

وسمعت وهى جالسة فى الشرفة تتطلع إلى رمـال الصـحـراء .. والســكون يخيم على المنطقـة صوت الشيخ " رفعت " من مسجل فى الشقة المجاورة ، كان يتلو سورة " الرحمن " وتنبهت "سهير" وأنصـتت مأخوذة .. لقد سمعت الشيخ " رفعت " كثيرا من قبل .. ولكنها لم تسمعه بمثل هذا الصوت الحنون .. أهى حالة نفسية ..؟ وتندت عيناها بالدموع .. أى صوت ؟ إنه كروان يغنى فى الجنة .

ظلت جالسة فى مكانها ساكنة خاشعة .. حتى انتهت التلاوة وانقطع الصوت . وأحست بالحيوية والانتعاش .. وتبدلت تبدلا تاما .. ودخل قلبها الإيمان بالحياة . . وأعدت مائدة الغداء بعناية فائقة .. أعدت طبق زوجها .. ووضعت أدوات المائدة الخاصة به .

وجلست تأكل وكأنه أمامها .. يحـدثها حديثـه المألوف .. وبعد ساعة دخلت الحمام .. وخرجـت معطرة ، محلولة الشعر ، بادية النضـارة .. وجلست فى غرفتها أمام المرآة تتزين وتمشط شعرها . ثم انتقت أجمل ثيابها .. ثوبا مخمليا يبرز تقاطيع جسدها وكل ما فيه من فتنة .. وجلست على حافة السرير ، ترتدى جوربا من النيلون فى لون بشرتها .. ومدت قدمها الصغيرة وساقها الجميلة .. وبدت الساق عارية وملتفة وفى لون اللبن الممزوج بالعسل المصفى .. وغطت هذه النعومة حتى الفخذ بجورب ثم تناولت الثانى .. وعندما دق جرس الباب توقفت تتسمع وأصابعها ضاغطة على الفخذ الدافىء .. ثم واصلت رفع الجورب بعد أن أدركت أن الصوت لايعنيها وأن الشغالة تحادث الجارة .

ثم لبست حذاءها ووقفت أمام المرآة .. وكانت النافذة مفتوحة على نهار جميل .. فحركت أنفاس الهواء شعرها .. ونضرت وجهها ، وأجرت الدم فى شفتيها .. والبريق فى عينيها .. ورأت الثوب المخمـلى قد حدد خطوط جسمها .. الوركين .. والخصر .. وبروز الصدر .

وتنفست الصعداء .. وجلست فى الشرفة تتطلع إلى الطريق .

وفى الليل كانت جالسة فى الصالة نائمة وعلى خديها الدموع ، بعد أن برحها الانتظار الطويل .. وصحت على حركته وهو يفتح الباب .. وجرت إليه وتعلقت بعنقه وارتمت على صدره وضغطت ، وأعدت مائدة العشاء ..

وجلسا يتعشيان .. وكانت تلاحظه بعينيها وتقيسه طولا وعرضا .. وتفكر .. ولما فرغا من الطعام .. قدمت له فنجان القهوة وهى تحدق فى وجهه .. فسألها :
ـ مالك .. لماذا تنظرين الىّ هكذا .. ؟ !
ـ تبدو لى .. كأنك لم تحارب .. ليس فى جسمك خدش واحد .. !
ـ لقــد كانت فرقتى .. أول فرقـة عبرت القناة ورفعت العلم ..
وقالت سهير لنفسها أن هذا هو ما قلته للناس فعلا ..

وردت عليه :
ـ لايبدو عليك هذا .. !
ـ لماذا .. ؟
ـ ليس فى جسمك جرح واحد .. جرح صغير .. !!

وبدت غير منشرحة .. وعلا وجهها الامتعاض ..
ـ أكنت تودين أن أعود جريحا أو ماشيا على عكاز .. ؟ !

وأغمضت عينيها ، واقتربت منه ، ولامست بخدها خده .. انها حمقاء .. كانت توده جريحا .. أما أن يعود إليها كما هو .. دون حتى الخدش البسيط .

فهو لم يحارب كما كانت ترغب .. ! وتتمنى .. أين بسالته .. وأين شجاعته .. ؟ هل انتقم لأطفال مدرسة بحر البقر .. وعمال أبى زعبل وسكان السويس .. والإسماعيلية وبور سعيد .. الآمنين .. ؟ هل انتقم لهؤلاء .. ؟

وبعد نصف الليل كانت بجواره على السرير .. فى قميص النوم .. نصف يقظة .. وكان هو قد استغرق فى النعاس وانكشف عنه الغطاء .. فأخذت تضمه عليـه ، ولامسـت يدها شيئا غريبــا تحت " الفانلة " ورفعت الفانلة وكشفته .. فتبينت جرحا بليغا فى الكتف قد تغطى بالضمادات .. وربط باحكام . وضمته إليها فى عنف .. وجنون .. وهى تضحك حتى استيقظ على قبلاتها وضحكاتها ..
=================================
نشرت القصة بمجلة الثقافة عدد يناير 1974
وأعيد نشرها فى مجموعة عودة الابن الضال لمحمود البدوى
عام 1993
وفى كتاب قصص من حرب اسرائيل الأولى والثانية والثالثة والرابعة ـ إعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2007
=================================








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق