الخميس، 5 مارس 2009

الجواد والفارس

الجواد والفارس
قصة محمود البدوى

اشتهرت قرية " الريحانة " بخيولها العربية الأصيلة وكان الشيخ عبد الرحمن يملك أجمل الخيول على الاطلاق وأعرقها أصالة .. كان يملك الجواد " مبروك " أسرع جواد وقعت عليه العين وأبرع من رقص فى سامر ..
كان القرويون يذهبون إلى مولد " الفرغل " ومولد " سيدى جلال " ليشاهدوا " مبروك " فى الساحة متبخترا مزهوا وعلى ظهره الأبنوسى الناعم كالديباج سرجه المطعم بالفضة وخيوط الذهب ..
ومن بداية العصر تبدأ الخيول المسرجة فى الرقص والناس من حولها حلقات والأبصار فى الدائرة الرحبة تحدق وتعجب لما يمكن أن يفعله الحيوان ..
وعندما ينزل " مبروك " تستقبله الجماهير بالفرحة الغامرة والتهليل والتصفيق فهم يعرفونه بنظرته المتوهجة وغرته المشرقة على الجبين ثم بالحركة المفردة التى لا يقوم بها جواد آخر فى كل الموالد عندما يحيى الشعب المتحمس يرفع رجله اليمنى ويمدها أكثر من دقيقة وهو ساكن الجوارح كالتمثال ..
ومن خلال ذلك الحشد الذى يموج ويجزر فى المولد يبدو فارسه المربوع الأسمر " عبد الرحمن " فى زعبوطه الكحلى وعمامته المزهرة يمسك اللجام .. وما يمسكه .. ويرد على تحية الجماهير أيضا بابتسامة خفيفة وأنف شامخ ..
وينسى الناس من حوله أى مشهد آخر فى الساحة .. ينسون الحاوى ورقص الغوازى وحتى سرك " عمار " ..
وفى غمرة الاعجاب والوله .. يأتى الفارس الذى لا يشق له غبار بحركة أخيرة .. فيغمز الجواد غمزة خفيفة فيرفع هذا رجليه الأماميتين فى وثبة رائعة ثم ينطلق متبخترا والعرق ينضح من جلده الأسمر البراق .. وفى لجـامه الرغوة .. وقد تفتح منخراه جدا .. ليملأ صدره القوى ويزفر ..
كأنه يعبر عن أسفه على مفارقة الجموع التى تحبه ويحبها ..
***
وظل الجواد " مبروك " فى قلب رواد المولد محبوبها الأوحد ..
ومرت الأيام وزحفت المدنية على القرية الوادعة المجاورة لشريط السكة الحديد ية .. فأقيمت بجوار بستانها الغربى محطة صغيرة .. ودخل القطار وصفر .. وأصبح أهل القرية .. يصعدون إليه ويهبطون منه بأحمالهم وأثقالهم ..
ورأى " مبروك " القطار .. وهو يقضم البرسيم فى الحقل .. فرفع إليه وجهه ونشر أذنيه .. فى تطلع المستغرب .. ثم اعتاد عليه وألفه وأصبح كلما وقف القطار فى المحطة يرد عليه بالصهيل ..
***
وفى المدى البعيد تناقصت الخيول فى القرية .. ثم انقرضت .. وحتى الجمال والحمير .. فعل بها الزمان وأصبح اللورى يمر على الجسر وينزل إلى الدرب .. يحمل أكياس القطن وزكائب الغلال ..
ونسى الناس شهرة القرية فى نتاج الخيل .. ولكن " مبروك " ظل فى القرية .. وان كف عن الذهاب إلى الموالد ..
وظل الشيخ " عبد الرحمن " يركبه فى غدواته القريبة والبعيدة ولا يستعمل القطار ..
وكان ( مبروك ) قد كبر وسمن قليلا .. ولكنه ظل محتفظا بجماله .. وجلده الأبنوسى الناعم وعينيه المتألقتين .. كان فيهما ذكاء لا تراه عين إنسان ..
وقد أطلقه الشيخ " عبد الرحمن " يمرح فى مرعاه .. لم يكن يقيده أبدا ولا يضع عليه السرج إلا وهو ذاهب إلى البندر أو إلى السوق ..
وكان أهل القرية جميعا يعرفون ( مبروك ) وطباعه .. فما استوى قط على ظهره سوى صاحبه ..
ولكن عبد المقصود وهو فلاح كسول عنيد .. لم يصدق هذه الإشاعة .. وأراد أن يجرب حظه مع الجواد وهو ذاهب إلى الحقل يبذر البرسيم .. وجد الجواد أمامه فى ندوة الفجر يرعى وحده وليس قريبا منه أنس ولا جان .. وكان على ظهر عبد المقصود كيلة البرسيم والحقل على مدى فرسخ واحد ففكر أن يضعها على ظهر الجواد ويمضى به وتقدم منه فى غبش الظلمة ليستعمله .. فى هذه الجولة القصيرة ..
وعندما اقترب من ( مبروك ) رأى فى عينه الألفة التى طمأنته .. فوضع يده على كاحله وطبطب قبل أن يركب وتراجع قليلا ليثب وإذا بالجواد يباغته برفسة قوية ذهبت به إلى المستشفى ..
وخرج بعدها يعرج .. حاملا العلامة والعبرة لمن يتطاول على ( مبروك ) ..
***
وكان الشيخ " عبد الرحمن " يترك للجواد حقل برسيم يكفيه طوال العام عندما اشتد الطلب على البرسيم وارتفع ثمنه جدا وكان الفلاحون يقولون له :
ـ تترك هذا الغيط بحاله للحصان يا شيخ .. انه يدر عليك أكثر من مائة جنيه لو زرعته خضارا والحصان شاخ ويكفيه التبن والشعير ..
فيرد عليهم مبتسما :
ـ إن مبروك قطعة من لحمى وأعز عندى من ولدى ( زيدان ) ولن أجعله يأكل الدريس الناشف وحده فى شيخوخته ..
وطعن الشيخ " عبد الرحمن " فى السن أيضا .. ولم يعد يذهب بالجواد إلى الموالد ..
وظل السرج المطهم فى الرواق يذكره بأجمـل أيام حياته .. ذكرى
تنتشى لها نفسه .. وتتفتح براعم قلبه ..
وكان الفارس يستعمل سرجا آخر إذا ذهب إلى السوق .. أما فى جولات الحقول فكان يركبه من غير سرج ولا لجام .. حتى وهو ذاهب ليرى المياة فى ( الحوال ) ..
وكان مبروك يتبختر وحده فى المزرعة كلها يستقبل الشمس والهواء وهو يعلم أنه المفرد فيها ..
والجميع يعرفونه .. ويعرفون صاحبه كفارس عديم النظير .. ومن أهل القرية من عاصر بطولة الفارس الشجاع " عبد الرحمن " فى ثورة 1919 وكان فى وقتها شابا فى العشرين من عمره وعرفوا أنه قاتل الإنجليز وهم متحصنون فى المدرسـة الثانوية بأسيوط .. وقتل منهم كثيرا ..
وألقى الرعب فى قلوبهم .. وتجمعوا عليه ذات يوم وحاصروه ليقتلوه .. وظل يقاتل وحده ..
وكان أبرع منهم جميعا فى مراوغته ومباغتته ودقة تصويبه فلم يتمكنوا منه وفك الحصار ..
وظل الشيخ عبد الرحمن محتفظا بالبندقية التى قاتل بها فى هذه المعركة طوال هذه السنين ..
***
وعندما اشتعلت الحرب بين العرب وإسرائيل , وأخذ اليهود لأول مرة يغيرون بطائراتهم على القرية المصرية .. كان قلبه يتوهج ويشتعل نارا .. ولم يكن يدرى ما الذى يفعله على وجه التحقيق ..
ثم وجد نفسه يقول للفلاحين بعد صلاة المغرب :
ـ إذا سقط .. ناحوم هنا فقطعوه بفئوسكم ..
كان يحرق الارم ويميز من الغيظ كلما سمع بغارة .. وفى ظهر يوم مرت طائرة فوق رؤوسهم وتطلع إليها الفلاحون وهم يعزقون الأرض .. وكانت منخفضة جدا فوق مستوى النخيل .. وسمعوا بعدها صوت المدافع فى المدينة تطاردها بعنف ..
***
وفى أصيل يوم من أيام الإثنين .. التقط الشيخ " عبد الرحمن " أزيز طائرة وهو على ظهر الجواد .. التقط الأزيز من بعيد ثم رآها .. شاهد طائرة ( هليوكوبتر ) ناحية الغرب تحلق .. ثم تنـزلق هابطة حتى تكاد تمس رؤوس الأشجار الصغيرة .. فوجه مبروك نحوها بسرعة وفهم الجواد الأصيل مقصد فارسه فانطلق فى سرعة الريح .. يطارد الطائرة فى خطوط ملتوية حتى لا يكون تحت هدف الطيار ..
وأخذ الشيخ عبد الرحمن يتبع الطائرة فى مسارها وعيناه تتوهجان نارا ..
ورآه الفلاحـون فى الحقول يطلق النـار عليها بشدة .. ثم يميل عن
ظهر الحصان ليتفادى مدفع الطائرة .. ويتعلق بجانب .. وهكذا يميل وينتصب .. والجواد العظيم يسابق الريح طواعا لفارسه ..
ثم اقتربت الطائرة من الأرض .. واقتربت ووراءها مثل السحابة .. ورأى الفارس الفرصة الذهبية ليصيبها قبل أن تسقط شيئا .. وجد أمامه وهو يتابعها ترعة ( السنطة ) تعترض طريقه وهى ترعة لم يختبر فيها منذ شبابه جواده الأصيل لأنه لم يكن فى حاجة إلى هذا الاختبار ولكنه الآن سيفعلها وهو يطير مع الريح .. فوجه الجواد نحو الترعة .. وأدرك الجواد الذكى غرض فارسه .. فوثب الوثبة الرائعة .. وكتم الفلاحون أنفاسهم وهم يتابعون المشهد من بعيد ..
وخيل إليهم أنهم يرون الأسطورة .. أسطورة الأساطير رجعت إليهم وبدت أمامهم بصورتها الباهرة وكل ما فيها من جبروت ..
***
وعنـدما رجـع الشيخ " عبد الرحمن " رأوا وجهه متجهما وعليه
غضب الأسد الذى أفلتت منه الطريدة .. فقد هربت منه الطائرة وسواء أصابها بطلقاته أو لم يصبها .. ولكنه كان يود أن يشاهدها ساقطة ..
وكان غيظه قد انفجر على الشىء الذى فى يده .. على بندقيته العتيقة فلوى ماسورتها وهى حامية .. ولم يعجب الفلاحون لشىء عجبهم لرجل يطوى الحديد بين يديه وهو فى السبعين ..






=====================================


نشرت فى مجلة المجلة بالعدد رقم 171 فى مارس 1971 واعيد نشرها فى كتاب " صقر الليل " 1971 وفى كتاب قصص من حرب اسرائيل الأولى والثانية والثالثة والرابعة ـ إعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2007



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق