الخميس، 5 مارس 2009

الإشارة

الإشــارة

قصة محمود البدوى

حدث فى ليلة من ليالى الخريف ـ وكنت فى طريقى إلى بيتى بضاحية مصر الجديدة ـ أن رأيت سيدة تقف حائرة على رأس الطريق وتسأل عن شارع دكرنس ، ولما كنت أعرف موقع الشارع ، وكانت السيدة أجنبية ولاتستطيع التفاهم مع من تصادفه إلا بمشقة ، لأنها تجهل اللغة الدارجة ، فقد أشفقت عليها ومشيت بجانبها أدلها على الطريق .

ولما بلغنا المنزل الذى تقصده وقفت أترجم كلامها للبواب .

ولم تجد الرجل الذى تسأل عنه وتحمل عنوانه ، وعلمنا من البواب أنه ترك الشقة منذ أكثر من سبعة أشهر .. إلى حيث لايعلم .

ورأيت وجه السيدة يصفر وارتعش فمها وهى تسمع هذا الخبر ، كأنها كانت تعلق كل آمالها على لقاء الرجل الذى ذهب ، وعدنا مرة أخرى إلى الطريق .. وكانت صامتة تجتر أحزانها ثم سألتنى عن فندق أو بنسيون يمكن أن تقضى فيه الليل ، وعرفتها أنه لاتوجد بنسيونات فى هذه المنطقة .. ولايوجد إلا فندق واحد فى الضاحية وأجره مرتفع والأحسن أن تذهب إلى المدينة .. وتلقت كلامى دون تعليق ..

ومشيت بجوارى مستسلمة إلى محطة المترو ..وهناك تحت الضوء استطعت أن أميز قسمات وجهها ..

وكانت رشيقة حلوة ترتدى رداء سنجابيا من قطعة واحدة .. ظاهر فيه البساطة والرخص ولكنها بدت فيه أكثر فتنة .. وكانت فى الرابعة والعشرين من عمرها .. ويبدو عليها أنها تشكو من حالة نفسية أو قلق متمكن ، ووضعت الحقيبة الصغيرة التى كانت تمسك بها على الرصيف واستدارت إلىّ بوجهها .. ورأيت ابتسامة خفيفة لاحت على شفتيها ..

وقالت برقة :
ـ الظاهر أننا سننتظر طويلا .. تفضل أنت ..
ـ سأبقى حتى تركبى ..

وبدت منها حركة بسيطة .. فاقتربت منى ولاحظت أنها ليست طويلة القامة بل أقرب إلى القصر وعودها أكثر لينا ورشاقة مما قدرت أولا .

وكنت أفكر وأنا واقف معها فى السبب الذى جعلنى أخصها بكل هذه العناية ، الأنها جميلة أم لأنها وحيدة وغريبة فى مكان يبعد عن بيتها ، أم لأنى كنت أود أن أمرن لسانى على لغة تصورت أنى قد نسيتها تماما .. الواقع أنه مع هذه الأشياء مجتمعة فانى كنت أشتاق إلى مرافقة أنثى ولو لجولة قصيرة .

ولما طال انتظارنا فى المحطة .. وكانت تنظر إلىّ من وقت لآخر .. كأنها تبحث عن حل لورطتها ..

عرضت عليها فى بساطة أن تقضى الليل فى بيتى وقبلت مسرورة .. كأنها كانت تنتظر هذا العرض منذ التقينا ولم تجد الرجل الذى كانت تقصده ، ومشينا فى خطى رتيبة إلى البيت .

وكنت أسكن فى الطابق السادس من عمارة حديثة البناء .. فى شقة صغيرة من ثلاث غرف مجاورة للصحراء مباشرة .. وقريبة من المطار .. وسرت السيدة منها ومن جمال الحى وهدوء الصحراء .. وسرت أكثر لما وجدتنى وحدى دون خادم أو أى انسان يشاركنى فى المعيشة .

واشتركنا معا فى اعداد العشاء وكان كل شىء فى الثلاجة .

وجلسنا نأكل .. وشعرت حقا بمتعة المؤانسة .. فقد كانت هيلين مع جمالها رقيقة الأنوثة ناعمة الصوت .. دافقة العواطف ..

وعادت إلى روحها المكتئبة بعض البهجة فتفتحت نفسها ، وأخذت تتحدث بطلاقة حتى أخذت بحلاوة حديثها .. وحتى قضينا وقتا طويلا على المائدة .. وبعد العشاء .. تركت لها غرفتى لتخلع بها ملابسها وتستريح من تعب السفر ..

وكنت أتوقع أنها تنام على التو ولكنها خرجت بعد دقائق وظلت تبحث عنى حتى وجدتنى فى الشرفة ..

فقلت لها :
ـ أتأخذين سيجارة ..؟
ـ لامانع .. وان كنت لاأدخن كمدمنة ..
ـ ردىء كالمعتاد ..
ـ أحس بحلقى كله يلتهب ..
ـ هذا أحسن .. لكى لاتضعى سيجارة فى فمك الجميل مرة أخرى ..
وابتسمت ..

وسألت بصوت أكثر نعومة :
ـ أتعيش هنا وحدك ..؟
ـ نعم ..
ـ ولا أحد معك ..؟
ـ لا أحد على الاطلاق ..
ـ ولكن الشقة كاملة .. لاينقصها شىء وغرفة النوم غرفة عروس ..؟
ـ لقد ورثتها عن زوجتى .. ماتت فى العام الماضى ..
ولاحظت الأسى على وجهى ..
ـ آسفة لأنى أثرت أشجانك ..
ـ أبدا .. لقد استراحت من عذاب طويل .. كانت مريضة بالسرطان ..
ـ لماذا لم تتزوج بعدها .. انك شـاب .. وأمامك الحياة كلها ..
ـ لقد مررت بتجربة قاسية .. ولا أحب أن تتكرر ..
ـ لقد فقدت زوجى .. كما فقدت زوجتك .. كان لى زوج ولم يكن شيئا فى عداد الرجال .. ولكن بعد أن مات أحسست بفجوة .. وبفراغ رهيب ..

وكنت أعرف شعور الأرملة الوحيدة .. عندما تجد نفسها مرة واحدة فى وجه العاصفة فقلت لها برقة :
ـ أعرف شعورك ..
ـ لم يكن أكثر من خيط .. رفيع .. واه .. ولكنه يربطنى بالحياة ويجعلنى أحس بجريانها حولى .. أما الآن فأنا أحس بالموات ..
وكنت أعرف معنى كلامها وأطرقت ..
وكانت تبدو كمن عانى كثيرا ومر بمرحلة قاسية ..
وسألتها ..
ـ وأنت الآن مثلى لاتفكرين فى الزواج مرة أخرى ..؟
فزمت شفتيها مع حركة من رأسها وقالت ..
ـ اننى الآن .. أبحث عن عمل وسأجده ..

واستأذنت لتذهب إلى الفراش وكنت أستطيع أن أذهب وراءها .. وأقضى الليل معها ولكنى ترفعت عن هذا العمل .. بسبب لا أعرفه بالضبط .. والإنسان لايستطيع فى كل وقت أن يوضح مشاعره وقد يكون لأننى شئت ألا أجعلها تشعر بأننى أتقاضى أجر راحتها فى بيتى .. أو أجعلها تحس بأنها سهلة المنال من أول لقاء ..

وفى الصباح استيقظت مبكرة .. وأعدت لنا الشاى .. وعندما ارتدت ملابسها وتزينت .. وتناولت حقيبتها .. واستعدت للخروج .. تفجرت عواطفها على الباب .. وأنا أمد اليها يدى مودعا ..

***

ومر عام كامل .. وفى ليلة من ليالى أكتوبر .. وكنا فى اليوم الثانى من المعركة بيننا وبين الإنجليز والفرنسيين فى القنال وكنت أتناول معطفى .. وبندقيتى .. وأتهيأ للخروج .. سمعت جرس الباب الخارجى يدق .. ولما فتحت الباب وجدت هيلين على العتبة .. وكانت تحمل حقيبة صغيرة ..
ودخلت مشرقة .. وبادرتها بقولى ..
ـ كيف اهتديت إلى البيت فى هذا الظلام ..؟
ـ انه منقوش فى ذاكرتى .. يا اسماعيل ولا يمكن أن أنسـاه .. وأنسى الليــلة التى قضيتها معك .. كان لابد أن أراك ..

وعجبت لأن اسمى ظل فى ذاكرتها بعد عام كامل .. وسألتها ..
ـ أرجو أن تطول اقامتك فى هذه المرة ..
ـ جئت لأقضى معك اسبوعا كاملا .. اننى فى أجازة .. ورأيت أن أقضيها معك لأنى أشعر بالسعادة والأمان ..
ـ من حسن حظى أن تفكرى فى المجىء إلىّ فى هذا الوقت .. لتؤنسينى ..
ـ رأيت الناس ينظرون إلىّ فى الشارع بقوة .. فقلت لنفسى لعلهم تصوروا أننى يهودية .. لأننى لا أضع الصليب على صدرى .. وخفت .. وجريت اليك ..
ـ حسنا ما فعلت .. ولكن الناس هنا .. لايؤذون أحدا .. فكونى آمنة ولا تتصورى هذه التصورات ..
ـ ولماذا هذه البندقية .. هل أنت ضابط ..؟
ـ اننى متطوع فى الحرس الوطنى .. وسأضطر لتركك الآن .. وسأجىء فى الفجر .
ـ وتتركنى وحدى فى هذا الظلام ..؟
ـ لاتخافى .. اننى فى الشارع لأحميك .. وإذا حدثت غارة فانزلى إلى الدور الأرضى .
ـ لن أبرح مكانى ..
ـ لماذا ..؟

ـ ان الناس إذا اجتمعوا فى مكان واحد يتسلط عليهم خوف واحد من عدو مشترك .. الموت .. ويصبح حديثهم كله عن حوادث الغارات .. وليس عندى أعصاب لهذا ..
ـ كما تشائين ..

وتركتها .. وفى الفجر .. لما عدت كانت نائمة .. وأشفقت عليها من الليلة العنيفة التى انقضت فقد استمرت الغارات طول الليل ..

وفى الصباح لما نهضت من الفراش .. فكرت فى أن أجىء لها بسيدة أعرفها لتؤنسها فى وحدتها ما دامت لاتحب النزول إلى الدور الأرضى فى وقت الغارات .. ولكنها رفضت .. وقالت لى أنها مستريحة .. وأنها تنام نوما عميقا ولا تحس بالغارات اطلاقا .. ولا داعى لأن أغير أى شىء من نظام حياتى من أجلها ، وذهبت لبعض شئونى ولما عدت إلى البيت فى العصر .. استأذنت لتتريض ساعة .. وكنت فى حاجة إلى النوم لأنى قضيت الليل ساهرا فتركتها تذهب وحدها وعادت قبل الظلام .. وأنا أستعد للخروج .. فقالت وهى داخلة ..
ـ الأحسن أن أسافر ..
ـ لماذا ..
ـ لأنك لاتمكث معى أكثر من دقيقة .. هل أنت نازل .. و ..

ولم أرد عليها .. والواقع أن كلمة السفر أزعجتنى فقد عادت إلىّ هيلين فى ظروف سيئة .. ولا مجال فيها للعواطف .. ولم أكن أمكث معها فى الليل الطويل .. أكثر من دقائق خاطفة ..

وأحسست فى أعماقى بأنى أحبها .. كما يحب الرجل المرأة بكل حواسه .. وكل قلبه .. ولكننى برغم قربها منى ووجودها فى بيتى كنت بعيدا عنها ..

لأنى كنت مشغولا بما هو أهم .. كنت مشغولا بوطنى .. الذى تحوم فوقه طائرات الأعداء .. وبالناس الذين أحبهم والذين فوجئوا بالعدوان الوحشى فهبوا جميعا لملاقاته ..

وكان الضرب شديدا على منطقة مصر الجديدة فى الليلة الفائتة .. فترك كثيرون من السكان مساكنهم وذهبوا إلى الريف .. أو إلى أقربائهم فى القاهرة .. وبقى فى العمارة التى أسكنها البواب .. وساكن واحد ..

وعرضت على هيلين أن تمضى يومين عند قريبة لى فى القاهرة حتى ينجلى الموقف .. فرفضت .. وقالت لى .. أنها ستظل بجوارى مهما تطورت الأحوال ..

وفى الليل اشتدت الغارات على المطارات .. وضرب المطار الذى بجوارنا .. فغضبت .. وان كنت أعرف أن الطائرات التى فيه عبارة عن هياكل خشبية .. ولكن تملكنى الغضب لأنهم ضربوا المطار ضربا مركزا يدل على علمهم الدقيق بموقعه ..

وفى الضحى .. أخذت طائرات الأعداء تقترب من الأرض وتضرب الأهالى .. بالمدافع الرشاشة .. وأصيب صبى صغير فى شارع " الأسود " برصاصة .. فسقط وكانت هيلين فى النافذة .. فجرت إليه ووضعته على صدرها .. حتى جاءت عربة الاسعاف ..

***

وظلت طول النهار حزينة تبكى .. وفى الليل .. لما رأتنى أشرع فى ارتداء ملابسى لأذهب إلى موقعى .. اقتربت منى وطوقتنى بذراعيها وغمرتنى بقبلاتها وهمست ..
ـ هل من الضرورى أن تذهب الليلة ؟ ان هناك كثيرين غيرك .. أبق معى ..
ـ هل أنت خائفة من شىء ..؟
ـ خائفة من الموت .. لأول مرة فى حياتى ..
ـ وليس فى استطاعتى أن أتخلف عن واجبى ..
ـ ذاهب إذن ..؟
ـ لابد من هذا ..
وارتمت على صدرى .. وأخذت تبكى ..

***

وكان الظلام رهيبا .. والبيوت تبدو كالجبال السوداء .. والأشجار كالأشباح وكانت الرجل تنقطع فى المنطقة من الغروب .. ولاتسمع إلا صوت صفارة الانذار وهمسات الجنود فى الخنادق القريبة .. وومضة سيجارة من حين إلى حين وقد يشق الظلام لسان طويل من الضوء .. وتظهر عربة من عربات السلاح وهى فى طريقها إلى خط النار ..

وكنت مكلفا بالمرور على ثلاثة شوارع رئيسية فى المنطقة .. ولمحت من بعيد عربة تتوقف .. قريبا من الصحراء .. وقدرت أنها تعطلت أو ضلت الطريق ، فاقتربت منها ووجدتها دبابة ضخمة ذاهبة إلى الميدان وعرفت السائق الطريق فدار دورتين ثم أخذ الشارع الرئيسى ومرت بعده قافلة من العربات والسيارات وهى تسرع إلى الميدان ..

وفى تلك اللحظة دوت صفارة الانذار وظللت فى مكانى لحظات ثم خرجت إلى الصحراء أنظر إلى بيتى من بعيد وكان غارقا فى الظلام وركزت بصرى فى نافذتنا الوحيدة التى تطل على الصحراء وكأننى أنظر إلى هيلين .. وتصورتها نائمة فى سريرى تحلم وشعرت بالشوق اليها وبهزة الانفعال .. وأدركت أننى أحببتها حبا عنيفا .. وأنها سيطرت على حواسى كلها ..

وسمعت صوت طائرات الأعداء فوقى فاستدرت وظهر لى ـ وأنا أستدير ـ نور انبعث لحظة من الوجهة الخلفية من السطح .. فركزت بصرى فرأيت بطارية ترسل أضواء .. إلى أعلا .. وبعد لحظات تأكدت أنها اشارات ضوئية .. ترسل إلى طائرات الأعداء ..

وفكرت سريعا فى الخائن الذى يمكن أن يقوم بمثل هذا العمل .. وجاءنى الجواب فى الحال .. فقد كان هناك رجل أجنبى يسكن حجرة على السطح ولا شك أنه جاسوس ولمت نفسى لأنى غفلت عن تنبيه السلطات إليه ..

ورأيت أن أصعد إلى العمارة بنفسى دون أن أحدث أية ضجة .. وأقبض عليه وهو فى غفلة منى متلبسا بجرمه ..

وعندما دخلت من الباب كان البواب نائما .. وخلعت نعلى قبل أن أصل إلى السطح وكان أزيز الطائرات فوقى يصم الآذان ..

ولمحت شيئا فى دثار أسود .. يرتكز فى براعة وتخف على حافة السور ويرسل الأضواء .. الحمراء .. والزرقاء .. من شىء فى يده ..

واقتـربت الطـائرة منـا .. وألقـت قنبلة رهيبة على المطار ..

وجن جنونى فى هذه اللحظة وسددت بندقيتى إلى الشبح .. وأطلقت .. رصاصة واحدة ..

وسمعت صرخة مكتومة وهوى الجسم على الأرض ..

ولما اقتربت محاذرا وتبينت وجههه فى الظلام ذعرت .. لقد رأيت هيلين وفى يدها جهاز اشارة يرسل كل الأضواء فنـزعتـه منهـا ووضعته فى جيبى .. وغطيت جسمها بمعطفى ..

وأحسست بحركة على السلم .. فجريت نازلا لأصرف الصاعدين .. فى هدوء قبل أن يدرك انسان ما حدث ..

وكان علىّ أن أدفن عواطفى فى جوف الصحراء قبل أن تشرق الشمس ..
================================
نشرت القصة بمجلة الرسالة الجديدة 1/7/1958 وأعيد نشرها بمجموعة الجمال الحزين لمحمود البدوى فى سنة 1962
================================




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق