الخميس، 5 مارس 2009

الماس

الماس
قصة محمود البدوى

كان الأطفال يلعبون كعادتهم فى الميدان الفسيح .. ويجرون إلى المنتزة العام يقطفون الأزهار ويعبثون بالحشائش .. ويقفزون فوق خرطوم المياة الذى يسقى الحديقة .. وكان الترام يسير على بعد أمتار قليلة منهم يحمل الركاب إلى البيت .. وكانت السيارات تنطلق فى الشوارع كالسهام .. وكان الناس يشترون من الحوانيت .. والنساء يتبخترن فى الفساتين المعطرة .. والجوارب النيلون ..
وفجأة دوت صفارة الإنذار ..
ولما كانت الشمس لاتزال طالعة .. فإن شيئا لم يتغير فى المدينة .. ظلت الحركة كما هى .. فقط أخذ الناس يتطلعون من حين إلى حين إلى السماء .. وحتى الأطفال ظلوا فى مكانهم من المنتزة .. ولكن بعد ثلث الساعة انطلقت المدافع بقوة .. وأخذت الطائرات المغيرة تلقى القنابل المدمرة والحارقة على السكان الآمنين .. فجرى الناس من الشارع إلى البيوت والمخابىء ..
وفى صباح اليوم التالى .. أخذ السكان يرحلون الأطفال والنساء .. فأقفر المنتزة .. من ملائكته الأطهار .. وفى الليل اطفئت المصابيح وخيم الظلام ..
وكان " خليل " بوابا لإحدى العمارات الكبيرة التى نزلت بجوارها القنابل ..
وكانت السيدة " علية " من السكان الذين بقوا فى العمارة .. وكان زوجها قد ذهب إلى ميدان القتال ..
ورفضت " علية " أن تسافر إلى الريف .. لتكون قريبة من زوجها .. وتعرف أخباره ..
وفى بداية المعركة .. كانت تسمع أخباره يوميا .. ثم انقطعت الأخبار .. وانتابتها الهواجس .. وأخذ القلق .. يدمر أعصابها .. ولكنها عادت وطمأنت نفسها .. وأخذت تضم طفلها إلى صدرها وتضغط على عظامه وكأنها تحتضن والده ..
وفى مساء يوم سمعت همسا من الناس فى الشارع .. فعاودها الخوف والقلق ..
ولم يكن لها أهل فى المدينة .. وكان من تزورهن من صديقاتها قد رحلن بسبب الغارات .. وكانت عندها خادمة صغيرة .. تؤنسها .. فجاءت أم الفتاة ذات صباح من الجيزة لتسلم عليها .. وأخذت ابنتها وهى خارجة على أن تعود الفتاة بعد أن تركب الأم الترام ولكن الفتاة لم تعد ..
وأدركت " علية " .. أن الأم جاءت لتأخذ ابنتها .. خوفا من الغارات .. وأصبحت علية وحيدة فى الطابق كله هى وطفلها الرضيع ..
وكانت فى أول الأمر .. تظل فى شقتها بعد صفارة الإنذار .. ثم أصبحت تخاف من الجدران المظلمة .. الصامتة .. فأخذت تنزل إلى الطابق الأرضى .. فتجد البواب وثلاثة من السكان .. يتحدثون عن الغارات وطائرات الأعداء التى تسقط كالذباب ..
وكان الناس يتحدثون فى حماسة .. وكل منهم يروى قصة فذة من قصص البطولة لشعب يقاتل وحده ثلاث دول مجتمعة ..
وكان كل رجل من الموجودين فى العمارة يتطوع لخدمة " علية " .. ويخرج والطائرات تلقى القنابل ليأتى للطفل باللبن ..
وعندما تنتهى الغارة .. كانت تصعد حاملة الطفل إلى شقتها ..
ولما كانت الغارات متصلة .. فقد تعبت من الطلوع والنزول .. وقررت أن تبقى فى الدور العلوى .. مهما كانت الأحوال .. وكانت تخاف على الطفل .. فتضع يديها فى أذنيه حتى لا تسمعه صوت القنابل ..
ولما اشتدت الغارات ورأت نوافذ بيتها تصفر والسقف يهتز .. تصورت أن كل شىء سيسقط على رأسها .. فأخذت تخرج بالطفل إلى الممر الخارجى وتظل تروح وتجىء .. فى الظلام .. وحولها أبواب الشقق المغلقة الصامتة ..
ورأت أنها إذا ماتت ومعها الطفل فى هذا المكان فلن يحس بهما أحد .. وجعلها هذا الخاطر تغير مكانها .. فأخذت تنزل إلى الدور الأرضى كلما سمعت صفارة الإنذار وكان يسكن بجوار السلم مباشرة شاب مصرى يعمل فى أحد المحال التجارية وكان أعزب ويقيم وحده فى أصغر الشقق فى العمارة .. ومنذ بداية الحرب والغارات .. وهو يرى " علية " واقفة مع البواب فى المدخل .. أو ملتصقة بالجدار .. قريبا من بابه وعلى ذراعها الطفل ..
وكان ينظر إليها فى ألم ..
ولما طال وقوفها أخرج لها الشاب كرسيا من شقته .. فجلست وهى تشكره بصوت خافت ..
ولما امتدت الغارات إلى منتصف الليل .. ذات مرة .. عرض عليها الشاب أن تستريح فى شقته .. حتى لا يتعرض الغلام للبرد ..
ولخوفها على الطفل .. دخلت واستراحت فى الداخل ..
وفى كل ليلة كانت تدخل شقة هذا الشاب .. وتريح طفلها ..
وكانت تلاحظ أن الشاب .. بعد أن يدخلها ويدعها فى أمان .. ويقدم للرضيع الطعام .. والغطاء .. ينسحب إلى الخارج ..
وتكرر منه هذا العمل فتألمت وشعرت بالخجل .. وقالت له .. ذات ليلة وهو يدخلها :
ـ إذا خرجت .. لن أبقى فى بيتك .. تحمينا وتموت أنت .. لا ..
ولكنه كان يرفض .. ويحاورها ويداورها .. حتى تجلس فيخرج ويغلق عليها الباب .. ويقف هو فى الخارج ..
وكانت تدرك .. أن البواب .. وهذا الشاب الذى تستريح فى شقته .. ومن بقى من الرجال فى العمارة .. يقفون هناك فى المدخل .. ليحموها هى ..
وشعرت بارتياح كبير .. وحتى الرجال الذين كانوا يغازلونها قبل الحرب .. بنظراتهم .. أصبحوا ينظرون إليها الآن نظرة أخرى .. ويعاملونها كأخت .. كانت تقابلهم فى الظلام .. صاعدة السلم و نازلة منه .. وكان بعضهم يمسك بيدها .. ويعينها على أن تهبط .. حتى لا تسقط بالغلام ..
كان الجميع يعاملونها بإنسانية وشهامة الرجل مع امرأة وحيدة ..
وذات ليلة .. سقطت قنبلة فى الشارع المجاور .. فذعر السكان .. ووضعت " علية " غلامها على صدرها .. ومصاغها وحليها فى حقيبة صغيرة وأمسكت بها ..
وقبل أن تبعد كثيرا وجدت الشاب .. فى أثرها يعدو .. وحمل الطفل عنها واحتموا فى مدخل بيت كبير مهجور .. بعيدا عن منطقة الضرب ..
ونظرت إليه وهو واقف بجوارها لأول مرة .. ورأته قويا وادعا .. كانت عيناه تنطق بالوداعة والطيبة وجسمه قويا مفتولا .. وسألته :
ـ لماذا تعرض نفسك للموت من أجلى ..؟
ـ لم أمت بعد ..! وأفعل هذا وأكثر منه من أجل الغلام ..
ـ أنت غير متزوج .. وليس عندك أطفال .. فمن أين جئت بعاطفة
الأبوة ..؟!
ـ لا أعرف ..!! وانى أحس بقلبى يتمزق فى وقت الغارة .. وأنا أرى الأطفال .. وأود لو أصبح درعا كبيرا يطوقهم ويحميهم ..
ـ هل تشعر بهذا الآن لأن والد " سمير " يحارب فى الجبهة ..
ـ اننى لا أعرف زوجك يا سيدتى ..
ـ هذا صحيح .. ولقد نسيت هذا كله ..!! وأرجو المعذرة ..
ونظرت إليه .. وهو يحمل ابنها فى حنان صادق .. وكانت تود أن تسأله عن اسمه ..
ومذ وقف بجوارها وهى تشعر بالاطمئنان وذهب عنها الخوف الذى كانت تحس به وهى تجرى فى الليل وحدها .. وتذكرت أن الحقيبة الصغيرة سقطت منها وهى تجرى مذعورة وفيها كل ثروتها وكل حليها .. ولكنها خشيت إن حدثته عنها أن يذهب ليبحث عنها فتصيبه طائرات الأعداء .. ولذلك كتمت عنه الخبر كلية .. وأحست فى تلك اللحظة بضآلة ما ضاع .. بجانب ابنها سمير ..
وسألها الشاب .. بعد أن انتهت الغارة :
ـ إلى أين كنت ذاهبة ..؟
ـ لا أعرف .. أمشى وأمشى .. ويكفى أن سمير على صدرى ..
ـ إذن .. نروح ..
ومشت بجانبه .. إلى البيت ..
وقبل أن تبلغ باب شقتها وجدت خادما فى العمارة يصعد السلالم خلفها وكان يحمل الحقيبة التى سقطت منها ..
ولما أعطته بعض القروش لأمانته رفض .. وعجبت أن القنابل التى يلقيها الأعداء من طائراتهم غاصت فى الأرض .. ونبشتها وأظهرت الجواهر الخفية .. أظهرت الماس الكامن فى أعماقها .. أظهرت الجواهر النقية الكامنة فى النفوس والتى كان يغطيها التراب ..
وكان الشاب وهو خارج فى الصباح إلى عمله .. يسألها عن حاجتها ويحمل إليها وهو عائد من الخارج كل ما تحتاجه .. وكان فى الليل .. يترك لها شقته ..
وكان البواب .. لا يعنى بأحد مثل ما يعنى بها .. وكذلك كل خادم .. وكل رجل بقى فى العمارة .. الكل يسألونها عما تطلب ..
وعرض عليها أحدهم أن ينقلها إلى الريف مع أسرته بعيدا عن الغارات .. ولكنها كانت ترفض ..
كانت تود أن يأتى زوجها .. ويجدها كما تركها فى بيتها .. ولكن جرت الحوادث بسرعة .. وانقطعت أخباره .. حتى قطعت كل أمل وحتى جف دمعها .. وكانت تنظر إلى الغلام .. وترى فيه وجه والده .. ترى فيه سلوتها الباقية ..
وذات صباح خرج خلبل البواب ليصلى كعادته قبل الشمس وأصابه الأعداء برصاصة .. فسقط .. ولما علم الشاب الساكن فى الدور الأرضى بمقتل البواب .. تألم .. وأمسك بالبندقية وأصبح لا يبرح المنطقة ..
وكان يرى الجنود المصريين يرابطون فى مواقعهم على رأس الشوارع .. والطائرات تغير وتلقى القنابل والرصاص يدوى .. أو يصفر ..
ولم يفكر فى شىء كما فكر فى " علية " وطفلها اللذين أصبحا فى حماه الآن .. فى حماه وحده ..
وحزنت " علية " لموت البواب ولكنها لم تفكر فى أن تترك العمارة كما تركها غيرها ..
وفى عصر يوم اشتد ضرب النار .. وبدأت معركة رهيبة .. وكانت " علية " ترى الشاب الساكن تحت يتحرك فى المنطقة كالنحلة .. ولا يخيفه الرصاص المتساقط فوقه عن الوصول إلى بغيته ..
كان يقف على النواصى .. ويقيم المتاريس .. ويحمل للجنود المحاربين الماء ..
ولما سكت مدفع أحد الجنود البواسل .. حل الشاب محله فى الحال .. وأخذ يطلق النار بقوة .. وأسقط طائرة إنجليزية ورأت علية طائرة أخرى تهوى وفى ذيلها النار ..
وحميت المعركة .. وتكاثرت الطائرات فوق رأسه .. فصمت بعد أن أطلق آخر رصاصة ..
وكانت نظرته الأخيرة متجهة إلى نافذة " علية " ..
وتخشب جسم " علية " لحظة ثم وجدت نفسها تندفع بسرعة نحو الباب الخارجى وعلى بسطة السلم وجدت زوجها صاعدا .. وعلى وجهه سحنة من خرج لتوه من المعركة ..
ودفنت رأسها فى صدره وأخذت تبكى وهى تضمه بقوة ..
وسألته :
ـ هل .. انتقمت لنا من هؤلاء الأندال ..؟
ـ أجل .. وسأنتقم ..
ودخل يقبل الصغير .. وكانت الساعة تدق الخامسة .. وكأنها تنشد نشيدا حماسيا ..





=====================================
نشرت فى صحيفة الشعب ـ العدد 171 ـ بتاريخ 23/11/1956وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
=====================================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق